الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
[ ص: 340 ] فصل وعلى هذه الأقوال الآية محكمة ، وقد ذهب قوم إلى نسخها ، فقالوا: كان هذا في أول الأمر ثم نسخت بقوله تعالى: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وقد حكي هذا المعنى عن ابن عباس رضي الله عنهما .

" أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال: أبنا عمر بن عبيد الله ، قال: أبنا ابن بشران ، قال: أبنا إسحاق بن أحمد الكاذي ، قال: أبنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال: حدثني أبي ، قال: أبنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس رضي الله عنهما " ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ، قال: نسخ من ذلك الظلم والاعتداء فنسخها: إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما أخبرنا المبارك بن علي ، قال: أبنا أحمد بن الحسين بن قريش ، قال: أبنا أبو إسحاق البرمكي ، قال: أبنا محمد بن إسماعيل بن العباس ، قال: أبنا أبو بكر بن أبي داود ، قال: بنا محمد بن سعد ، قال: حدثني أبي ، عن الحسين بن الحسن بن عطية ، عن أبيه عن عطية عن ابن عباس رضي الله عنهما ، في قوله: " ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف نسختها الآية التي تليها إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما الآية .

[ ص: 341 ] قال أبو بكر بن أبي داود ، وبنا يعقوب بن سفيان قال: بنا عبد الله بن عثمان قال: بنا عيسى بن عبيد الكندي قال: بنا عبيد الله مولى عمر بن مسلم أن الضحاك بن مزاحم أخبره قال: من كان غنيا فليستعفف الآية، نسخت، فقال إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما الآية.

قلت: وهذا مقتضى قول أبي حنيفة ، أعني النسخ ، لأن المشهور عنه أنه لا يجوز للوصي الأخذ من مال اليتيم عند الحاجة على وجه القرض ، وإن أخذ ضمن ، وقال قوم: لو أدركته ضرورة جاز له أكل الميتة ، ولا يأخذ من مال اليتيم شيئا .

[ ص: 342 ] ذكر الآية الثانية: قوله تعالى: للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون قد زعم بعض من قل علمه وعزب فهمه من المتكلمين في الناسخ والمنسوخ ، أن هذه الآية نزلت في إثبات نصيب النساء مطلقا من غير تحديد ، لأنهم كانوا لا يورثون النساء ، ثم نسخ ذلك بآية المواريث ، وهذا قول مردود في الغاية ، وإنما أثبتت هذه الآية ميراث النساء في الجملة وأثبتت آية المواريث مقداره ، ولا وجه للنسخ بحال .

ذكر الآية الثالثة: قوله تعالى: وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه اختلف العلماء في هذه الآية على قولين: أحدهما: أنها محكمة فروى سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال: إن الناس يزعمون أن هذه الآية قد نسخت ، والله ما نسخت ولكنها مما تهاون الناس به .

[ ص: 343 ] وأخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال: أبنا عمر بن عبيد الله البقال ، قال: أبنا ابن بشران ، قال: أبنا إسحاق بن أحمد الكاذي ، قال: أبنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال: حدثني أبي ، قال: أبنا يحيى بن آدم ، قال: أبنا الأشجعي ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق الشيباني ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما: وإذا حضر القسمة أولو القربى ، قال: هي محكمة وليست بمنسوخة ، قال: وكان ابن عباس إذا ولي رضخ ، وإذا كان المال فيه قلة اعتذر إليهم وذلك القول المعروف " قال أحمد : وبنا عبد الصمد ، قال: أبنا همام ، قال: أبنا قتادة ، قال الأشعري : ليست بمنسوخة ، وقال أحمد : وبنا عبد الوهاب ، عن سعيد ، عن مطر ، عن الحسن ، قال: " والله ما هي بمنسوخة ، وإنها الثابتة ، ولكن الناس بخلوا وشحوا ، وكان الناس إذا قسم الميراث حضر الجار والفقير واليتيم والمسكين ، فيعطونهم من ذلك " [ ص: 344 ] قال أحمد : وأبنا هشيم ، قال: أبنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، قال: وأبنا مغيرة ، عن إبراهيم ، قالا: " هي محكمة وليست بمنسوخة قال أحمد : وأبنا يزيد ، قال: أبنا سفيان بن حسين ، قال: سمعت الحسن ومحمدا ، يقولان في هذه الآية ، : " وإذا حضر القسمة أولو القربى ، هي مثبتة لم تنسخ ، وكانت القسمة إذا حضرت حضر هؤلاء فرضخ لهم منها ، وأعطوا قال أحمد : وأبنا يحيى بن آدم ، قال: أبنا الأشجعي ، عن سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، والشعبي " وإذا حضر القسمة أولو القربى ، قالا: هي محكمة وليست بمنسوخة " قال أحمد : وأبنا عبد الأعلى ، عن معمر ، عن الزهري : " إنها محكمة لم تنسخ [ ص: 345 ] ، وممن ذهب إلى إحكامها عطاء ، وأبو العالية ، ويحيى بن يعمر ، ثم اختلف من قال بإحكامها في الأمر المذكور فيها .

فذهب أكثرهم: إلى أنه على سبيل الاستحباب والندب وهو الصحيح ، وذهب بعضهم: إلى أنه على الوجوب .

القول الثاني: أنها منسوخة .

" أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال: أبنا عمر بن عبيد الله ، قال: أبنا ابن بشران ، قال: أبنا إسحاق بن أحمد الكاذي ، قال: أبنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال: حدثني أبي، قال: أبنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس رضي الله عنهما " وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه ، فنسختها آية الميراث فجعل لكل إنسان نصيبا مما ترك مما قل منه أو كثر

[ ص: 346 ] قال أحمد : وأبنا يحيى ابن آدم ، قال: أبنا الأشجعي ، عن سفيان ، عن السدي ، عن أبي مالك : " وإذا حضر القسمة ، قال: نسختها آية الميراث أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك ، قال: أبنا أبو الفضل بن خيرون ، وأبو طاهر الباقلاوي ، قال: أبنا ابن شاذان ، قال: أبنا أحمد بن كامل ، قال: أبنا محمد بن سعد ، قال: حدثني أبي ، قال: حدثني عمي ، عن أبيه ، عن جده ، عن ابن عباس رضي الله عنهما " وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا يعني عند قسمة الميراث ، وذلك قبل أن ينزل الفرائض ، وأنزل الله بعد ذلك الفرائض ، فأعطى كل ذي حق حقه .

وروى مجاهد ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال: نسختها يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين الآية .

وأخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال: أبنا عمر بن عبيد الله ، قال: أبنا ابن بشران ، قال: أبنا إسحاق بن أحمد ، قال: أبنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، [ ص: 347 ] قال: حدثني أبي ، قال: أبنا عبد الوهاب ، عن سعيد ، عن قتادة ، قال: قال سعيد بن المسيب : " كانت هذه قبل الفرائض وقسمة الميراث ، فلما جعل الله لأهل الميراث ميراثهم صارت منسوخة " قال أحمد : وأبنا عبد الصمد ، قال: أبنا همام ، قال: أبنا قتادة ، عن سعيد بن المسيب " أنها منسوخة ، قال: كانت قبل الفرائض ، وكان ما ترك من مال أعطي منه الفقراء ، والمساكين ، واليتامى ، وذوو القربى إذا حضروا القسمة ، ثم نسخ ذلك بعد ، نسخها المواريث فألحق الله لكل ذي حق حقه ، فصارت وصية من ماله يوصي بها لذي قرابته ، وحيث يشاء "

" أخبرنا المبارك بن علي ، قال أبنا أحمد بن الحسين بن قريش ، قال: أبنا إبراهيم بن عمر البرمكي ، قال: أبنا محمد بن إسماعيل بن العباس ، قال: أبنا أبو بكر بن أبي داود ، قال: أبنا إسحاق بن إبراهيم بن حبيب ، قال: حدثني يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن السدي ، عن أبي مالك : " وإذا حضر القسمة ، قال: نسختها آية الميراث قال أبو بكر : وأبنا يعقوب بن سفيان ، قال: أبنا عبد الله بن عثمان ، قال: أبنا عيسى بن عبيد الكندي ، قال: أبنا عبيد الله مولى عمر بن مسلم ، [ ص: 348 ] أن الضحاك بن مزاحم ، قال: في قوله: " وإذا حضر القسمة أولو القربى ، قال: نسختها آية الميراث ، وقال عكرمة : نسختها آية الفرائض " .

وممن ذهب إلى هذا القول قتادة ، وأبو الشعثاء ، وأبو صالح ، وعطاء في رواية .

[ ص: 349 ] ذكر الآية الرابعة: قوله تعالى: وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا في المخاطبين بهذه الآية ثلاثة أقوال: أحدها: أنه خطاب للحاضرين عند الموصي ، ثم في معنى الكلام على هذا القول قولان: أحدهما: أن المعنى وليخش الذين لو تركوا وليخش الذين يحضرون موصيا يوصي في ماله ، أن يأمروه بتفريق ماله فيمن لا يرثه ، فيفرقه ويترك ورثته ، ولكن ليأمروه أن يبقي ماله لأولاده ، كما لو كانوا هم الذين يوصون لسرهم أن يحثهم من حضرهم على حفظ الأموال للأولاد ، وهذا المعنى مروي ، عن ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وقتادة والضحاك ، والسدي ، ومقاتل .

[ ص: 350 ] والثاني: على الضد ، وهو أنه نهي لحاضري الموصي عند الموت أن يمنعوه عن الوصية لأقاربه ، وأن يأمروه الاقتصار على ولده ، وهذا قول مقسم ، وسليمان التميمي .

القول الثاني: أنه خطاب لأولياء اليتامى ، راجع إلى قوله تعالى: ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ، فقال تعالى: يعني أولياء اليتامى ، وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله فيمن ولوه من اليتامى وليحسنوا إليهم في أنفسهم وأموالهم ، كما يحبون أن يحسن ولاة أولادهم لو ماتوا هم إليهم ، وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضا .

[ ص: 351 ] والقول الثالث: أنه خطاب للأوصياء بإجراء الوصية على ما رسم الموصي ، وأن يكون الوجوه التي فيها مرعية بالمحافظة كرعي الذرية الضعاف من غير تبديل ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه ، فأمر بهذه الآية إذا وجد الوصي من الموصي في الوصية جنفا أو ميلا عن الحق فعليه الإصلاح في ذلك ، واستعمال قضية الشرع ورفع الحال الواقع في الوصية ، ذكره شيخنا علي بن عبيد الله وغيره ، وعلى هذا القول تكون الآية منسوخة ، وعلى الأقوال قبلها هي محكمة ، والنسخ منها بعيد ، لأنه إذا أوصى بجور لم يجز أن يجري على ما أوصى .

[ ص: 352 ] ذكر الآية الخامسة: قوله تعالى: إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ، قد توهم قوم لم يرزقوا فهم التفسير وفقهه أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: وإن تخالطوهم فإخوانكم وأثبتوا ذلك في كتب الناسخ والمنسوخ ، ورووه عن ابن عباس رضي الله عنهما .

" وإنما المنقول عن ابن عباس ما أخبرنا به المبارك بن علي ، قال: أبنا أحمد بن الحسين بن قريش ، قال: أبنا أبو إسحاق البرمكي ، قال: أبنا محمد بن إسماعيل بن العباس ، قال: أبنا أبو بكر بن أبي داود ، قال: أبنا عمرو بن علي بن بحر ، قال: أبنا عمران بن عيينة ، قال: أبنا عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ، قال: كان يكون في حجر الرجل اليتيم فيعزل طعامه وشرابه ، فاشتد ذلك على المسلمين ، فأنزل الله تعالى: وإن تخالطوهم فإخوانكم ، فأحل لهم طعامهم .

[ ص: 353 ] وقال سعيد بن جبير : لما نزلت: إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما عزلوا أموالهم من أموال اليتامى ، وتحرجوا من مخاطبتهم ، فنزل قوله تعالى: وإن تخالطوهم فإخوانكم ، وهذا ليس على سبيل النسخ ، لأنه لا خلاف أن أكل أموال اليتامى ظلما حرام ، وقال أبو جعفر النحاس : هذه الآية لا يجوز فيها ناسخ ولا منسوخ ، لأنها خبر ووعيد ، ونهي عن الظلم والتعدي ، ومحال نسخ هذا ، فإن صح ما ذكروا عن ابن عباس فتأويله من اللغة: أن هذه الآية على نسخ تلك الآية ، وزعم بعضهم أن ناسخ هذه الآية قوله تعالى: ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ، وهذا قبيح ، لأن الأكل بالمعروف ليس بظلم فلا تنافي بين الآيتين "

[ ص: 354 ] ذكر الآية السادسة والسابعة: قوله تعالى: واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم وقوله: واللذان يأتيانها منكم فآذوهما الآيتان ، أما الآية الأولى ، فإنها دلت على أن حد الزانية كان أول الإسلام الحبس إلى أن تموت أو يجعل الله لها سبيلا ، وهو عام في البكر والثيب ، والآية الثانية اقتضت أن حد الزانيين الأذى فظهر من الآيتين أن حد المرأة كان الحبس والأذى جميعا ، وحد الرجل كان الأذى فقط ، لأن الحبس ورد خاصا في النساء ، والأذى ورد عاما في الرجل والمرأة ، وإنما خص النساء في الآية الأولى بالذكر ، لأنهن ينفردن بالحبس دون الرجال ، وجمع بينهما في الآية الثانية ، لأنهما يشتركان في الأذى ، ولا يختلف العلماء في نسخ هذين الحكمين عن الزانيين ، أعني الحبس والأذى ، وإنما اختلفوا بماذا نسخا ؟ ، فقال قوم نسخا بقوله تعالى: الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة .

" أخبرنا المبارك بن علي ، قال: أبنا أحمد بن الحسين بن قريش ، قال: أبنا أبو إسحاق البرمكي ، قال أبنا محمد بن إسماعيل بن العباس ، قال: أبنا أبو بكر بن أبي داود ، قال: أبنا يعقوب بن سفيان ، قال: أبنا أبو صالح ، [ ص: 355 ] قال: حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما " واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم ، قال: كانت المرأة إذا زنت حبست في البيت حتى تموت ، وكان الرجل إذا زنى أوذي بالتعيير ، والضرب بالنعال ، فنزلت: الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ، وإن كانا محصنين رجما بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبنا عبد الوهاب الحافظ ، قال: أبنا أبو طاهر الباقلاوي ، قال: أبنا أبو علي بن شاذان ، قال: أبنا عبد الرحمن بن الحسين ، قال: أبنا إبراهيم بن الحسن ، قال: أبنا آدم ، قال: أبنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد " فآذوهما يعني سبا ، ثم نسختها: الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال: أبنا عمر بن عبيد الله ، قال: أبنا ابن بشران ، قال: أبنا إسحاق بن أحمد ، قال: أبنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال: حدثني أبي ، قال: أبنا عبد الرزاق ، قال: أبنا معمر ، عن قتادة " فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت ، قال: نسختها الحدود .

[ ص: 356 ] قال أحمد : وأبنا عبد الوهاب ، عن سعيد ، عن قتادة " واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم ، قال: كانت هذه الآية قبل الحدود ، ثم أنزلت: واللذان يأتيانها منكم فآذوهما ، قال: كانا يؤذيان بالقول والشتم وتحبس المرأة ، ثم إن الله تعالى نسخ ذلك ، فقال: الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة قال أحمد : وأبنا علي بن حفص ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد " واللذان يأتيانها منكم فآذوهما ، قال: نسخته الآية التي في النور بالحد المفروض

وقال قوم: نسخ هذان الحكمان بحديث عبادة بن الصامت ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال: " خذوا عني خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا ، الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة ، والبكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة " ، [ ص: 357 ] قالوا فنسخت الآية بهذا الحديث وهؤلاء يجيزون نسخ القرآن بالسنة ، وهذا قول مطرح ، لأنه لو جاز نسخ القرآن بالسنة لكان ينبغي أن يشترط التواتر في ذلك الحديث ، فأما أن ينسخ القرآن بأخبار الآحاد فلا يجوز ذلك ، وهذا من أخبار الآحاد ، وقال الآخرون ، السبيل الذي جعل الله لهن هو الآية: الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ، وقال آخرون: بل السبيل قرآن نزل ثم رفع رسمه وبقي حكمه وظاهر حديث عبادة يدل على ذلك ، لأنه قال: قد جعل الله لهن سبيلا ، فأخبر أن الله تعالى جعل لهن السبيل والظاهر أنه بوحي لم تستقر تلاوته ، وهذا يخرج على قول من لا يرى نسخ القرآن بالسنة ، وقد اختلف العلماء بماذا ثبت الرجم على قولين: [ ص: 358 ] أحدهما: أنه نزل به قرآن ثم نسخ لفظه ، وانعقد الإجماع على بقاء حكمه .

والثاني: أنه ثبت بالسنة .

ذكر الآية الثامنة والتاسعة: قوله تعالى: إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ، وقوله: وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن الآيتان [ ص: 359 ] إنما سمي فاعل الذنب جاهلا ، لأن فعله مع العلم بسوء مغبته ، فأشبه من جهل المغبة ، والتوبة من قريب: ما كان قبل معاينة الملك فإذا حضر الملك لسوق الروح لم تقبل توبة ، لأن الإنسان حينئذ يصير كالمضطر إلى التوبة ، فمن تاب قبل ذلك قبلت توبته ، أو أسلم عن كفر قبل إسلامه ، وهذا أمر ثابت محكم ، وقد زعم بعض من لا فهم له: أن هذا الأمر أقر على هذا في حق أرباب المعاصي من المسلمين ، ونسخ حكمه في حق الكفار بقوله: ولا الذين يموتون وهم كفار ، وهذا ليس بشيء ، فإن حكم الفريقين واحد .

[ ص: 360 ] ذكر الآية العاشرة: قوله تعالى: ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف هذا كلام محكم عند عامة العلماء ومعنى قوله: إلا ما قد سلف أي ، بعدما قد سلف في الجاهلية ، فإن ذلك معفو عنه ، وزعم بعض من قل فهمه: أن الاستثناء نسخ ما قبله ، وهذا تخليط لا حاصل له ولا يجوز أن يلتفت إليه من جهتين: أحدهما: أن الاستثناء ليس بنسخ .

والثاني: أن الاستثناء عائد إلى مضمر تقديره: فإن فعلتم عوقبتم إلا ما قد سلف ، فإنكم لا تعاقبون عليه ، فلا معنى للنسخ ههنا .

ذكر الآية الحادية عشرة: قوله تعالى: وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف وهذه حكمها حكم التي قبلها ، وقد زعم الزاعم هناك: أن هذه كتلك في أن الاستثناء ناسخ لما قبله ، وقد بينا رذولة هذا القول .

[ ص: 361 ] ذكر الآية الثانية عشرة: قوله تعالى: وأحل لكم ما وراء ذلكم ، وقد ذكر في هذه الآية موضعان منسوخان:

الأول: قوله: وأحل لكم ما وراء ذلكم ، وهذا عند عموم العلماء لفظ عام دله التخصيص بنهي النبي صلى الله عليه وسلم: " أن تنكح المرأة على عمتها أو أعلى خالتها " ، وليس هذا على سبيل النسخ ، وقد ذهب قوم لا فقه لهم إلى أن التحليل المذكور في الآية منسوخ بهذا الحديث ، وهذا إنما يأتي من عدم فهم الناسخ والمنسوخ والجهل بشرائطه ، وقلة المعرفة بالفرق بين التخصيص والنسخ .

وأما الموضع الثاني: فقوله تعالى: فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن [ ص: 362 ] اختلف العلماء في المراد بهذا الاستمتاع على قولين: أحدهما: أنه النكاح ، والأجور المهور ، وهذا مذهب ابن عباس ، ومجاهد ، والجمهور .

والثاني: أنه المتعة التي كانت في أول الإسلام، كان الرجل ينكح المرأة إلى أجل مسمى ، ويشهد شاهدين ، فإذا انقضت المدة ليس له عليها سبيل ، قاله قوم منهم السدي ، ثم اختلفوا هل هي محكمة أو منسوخة ، فقال قوم: هي محكمة .

" أخبرنا ابن ناصر ، قال: أبنا ابن أيوب ، قال: أبنا أبو علي بن شاذان ، قال: حدثنا أبو بكر النجاد ، قال: أبنا أبو داود السجستاني ، قال: أبنا محمد بن المثنى ، قال: أبنا محمد بن جعفر ، قال: أبنا شعبة ، عن الحكم ، قال: سألته عن هذه الآية " فما استمتعتم به منهن أمنسوخة هي ، قال: لا ، قال الحكم : وقال علي رضي الله عنه: لولا أن عمر نهى عن المتعة ، فذكر شيئا ، وقال آخرون: هي منسوخة واختلفوا بماذا نسخت على قولين: أحدهما: بإيجاب العدة .

[ ص: 363 ] " أخبرنا ابن ناصر ، قال: أبنا علي بن أيوب ، قال: أبنا أبو علي بن شاذان ، قال: أبنا أبو بكر النجاد ، قال: أبنا أبو داود السجستاني ، قال: أبنا أحمد بن محمد ، قال: أبنا هاشم بن مخلد ، عن ابن المبارك ، عن عثمان بن عطاء ، عن عطاء ، عن ابن عباس رضي الله عنهما " فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة فنسختها يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن .

والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ، واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر .

والثاني: أنها نسخت بنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المتعة ، [ ص: 364 ] وهذا القول ليس بشيء لوجهين: أحدهما: أن الآية سيقت لبيان عقدة النكاح بقوله: محصنين ، أي: متزوجين ، عاقدين النكاح ، فكان معنى الآية فما استمتعتم به منهن على وجه النكاح الموصوف فآتوهن مهورهن ، وليس في الآية ما يدل على أن المراد نكاح المتعة الذي نهى عنه ، ولا حاجة إلى التكلف ، وإنما أجاز المتعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم منع منها .

والثاني: أنه لو كان ذلك لم يجز نسخه بحديث واحد .

ذكر الآية الثالثة عشرة: قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل هذه الآية عامة في أكل الإنسان مال نفسه ، وأكله مال غيره بالباطل ، فأما أكله مال نفسه بالباطل فهو إنفاقه في معاصي الله عز وجل ، [ ص: 365 ] وأما أكل مال الغير بالباطل ، فهو تناوله على الوجه المنهي عنه سواء كان غصبا من مالكه ، أو كان برضاه ، إلا أنه منهي عنه شرعا ، مثل القمار والربا وهذه الآية محكمة والعمل عليها .

" أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال: أبنا عمر بن عبيد الله ، قال: أبنا ابن بشران ، قال: أبنا إسحاق بن أحمد ، قال: أبنا عبد الله بن أحمد ، قال: حدثني أبي ، قال: أبنا أسود بن عامر ، قال: أبنا سفيان ، عن ربيع ، عن الحسن " لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ، قال: ما نسخها شيء قال أحمد : وحدثنا حسين بن محمد ، قال: أبنا عبيد الله ، عن زيد بن أبي أنيسة ، عن عمرو ، أن مسروقا ، قال في هذه الآية " لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ، قال: إنها لمحكمة ما نسخت .

وقد زعم بعض منتحلي التفسير ، ومدعي علم الناسخ والمنسوخ: أن هذه الآية لما نزلت تحرجوا من أن يواكلوا الأعمى والأعرج والمريض ، وقالوا: إن الأعمى لا يبصر أطايب الطعام ، والأعرج لا يتمكن من المجلس ، والمريض لا يستوفي الأكل ، فأنزل الله عز وجل: ليس على الأعمى حرج الآية ، فنسخت هذه الآية ، [ ص: 366 ] وهذا ليس بشيء ، ولأنه لا تنافي بين الآيتين ، ولا يجوز أكل المال بالباطل ، بحال ، وعلى ما قد زعم هذا القائل قد كان يجوز أكل المال بالباطل .

ذكر الآية الرابعة عشرة: قوله تعالى: والذين عقدت أيمانكم [ ص: 367 ] اختلف المفسرون في المراد بهذه المعاقدة على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها المحالفة التي كانت في الجاهلية ، واختلف هؤلاء على ما كانوا يتعاقدون على ثلاثة أقوال: أحدها: على أن يتوارثوا .

" أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال: أبنا عمر بن عبيد الله ، قال: أبنا ابن بشران ، قال: أبنا إسحاق بن أحمد ، قال: أبنا عبد الله بن أحمد ، قال: حدثني أبي ، قال: حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس رضي الله عنهما " والذين عقدت أيمانكم ، قال: كان الرجل قبل الإسلام يعاقد الرجل ، فيقول: ترثني وأرثك ، فنسختها هذه الآية وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض الآية أخبرنا ابن ناصر ، قال: أبنا ابن أيوب ، قال: أبنا ابن شاذان ، قال: أبنا أبو بكر النجاد ، قال: أبنا أبو داود السجستاني ، قال: أبنا أحمد بن محمد المروزي ، قال: أبنا علي بن الحسين ، عن أبيه ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة " والذين عقدت أيمانكم ، قال: كان الرجل يحالف الرجل ليس [ ص: 368 ] بينهما نسب ، فيرث أحدهما الآخر ، فنسخ ذلك قوله: وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض وقال الحسن : كان الرجل يعاقد الرجل ، على أنهما إذا مات أحدهما ورثه الآخر ، فنسختها آية المواريث .

والثاني: أنهم كانوا يتعاقدون على أن يتناصروا ، ويتعاقلوا في الجناية .

والثالث: أنهم كانوا يتعاقدون على جميع ذلك .

" أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال: أبنا عمر بن عبيد الله ، قال: أبنا ابن بشران ، قال: أبنا إسحاق بن أحمد ، قال: أبنا عبد الله بن أحمد ، قال: حدثني أبي ، قال: أبنا عبد الرزاق ، قال: أبنا معمر ، عن قتادة ، في قوله: " والذين عقدت أيمانكم ، قال: كان الرجل في الجاهلية يعاقد الرجل ، فيقول: دمي دمك ، وهدمي هدمك ، وترثني وأرثك ، وتطلب بي وأطلب بك ، فلما جاء الإسلام بقي منهم ناس فأمروا أن يؤتوهم نصيبهم من الميراث ، وهو السدس ثم نسخ ذلك بالميراث ، فقال: وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله

التالي السابق


الخدمات العلمية