الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 337 ] وقال شيخ الإسلام تقي الدين رحمه الله تعالى فصل : في { قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة : ابتاعيها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق } .

                فإن هذا أشكل على كثير من الناس حتى إن منهم من قال : انفرد به هشام دون الزهري وظن ذلك علة فيه . والحديث في الصحيحين لا علة فيه .

                ومنهم من قال : " اشترطي لهم " : بمعنى عليهم . قالوا : ومثله قوله تعالى { ولهم اللعنة } أي عليهم اللعنة . ونقل هذا حرملة عن الشافعي . ونقل عن المزني وهو ضعيف .

                أما أولا : فإن قوله : " اشترطي لهم " صريح في معناه واللام للاختصاص وأما قوله : ( ولهم اللعنة فمثل قوله : ( لهم العذاب و ( لهم خزي وهو معنى صحيح ; ليس المراد أنهم يملكون اللعنة ; [ ص: 338 ] بل هنا إذا قيل : ( لهم اللعنة والمراد أنهم يجزون بها وإذا قيل : عليهم فالمراد الدعاء عليهم باللعنة فالمعنيان مفترقان . وقد يراد بقوله : " عليهم " الخبر : أي وقعت عليهم فحرف الاستعلاء غير ما أفاده حرف الاختصاص وإن كانا يشتركان في أن أولئك ملعونون . وقوله : " اشترطي لهم " مباين لمعنى اشترطي عليهم فكيف يفسر معنى اللفظ بمعنى ضده وأيضا فعائشة قد كانت اشترطت ذلك عليهم وقالت : " إن شاءوا عددتها لهم عدة واحدة ويكون ولاؤك لي فامتنعوا " .

                وأيضا فإن ثبوت الولاء للمعتق لا يحتاج إلى اشتراطه ; بل هو إذا أعتق كان الولاء له سواء شرط ذلك على البائع أو لم يشرط .

                يبقى حمل الحديث على أن هذا يشعر بأن الولاء إنما يصير لهم إذا شرطته وهذا باطل . ومن تدبر الحديث تبين له قطعا أن الرسول لم يرد هذا .

                وأما ما دل عليه الحديث : فأشكل عليهم من جهتين . من جهة أن الرسول كيف يأمر بالشرط الباطل . والثاني من جهة أن الشرط الباطل كيف لا يفسد العقد .

                وقد أجاب طائفة بجواب ثالث ذكره أحمد وغيره . وهو أن [ ص: 339 ] القوم كانوا قد علموا أن هذا الشرط منهي عنه فأقدموا على ذلك بعد نهي النبي صلى الله عليه وسلم فكان وجود اشتراطهم كعدمه وبين لعائشة أن اشتراطك لهم الولاء لا يضرك فليس هو أمرا بالشرط ; لكن إذنا للمشتري في اشتراطه إذا أبى البائع أن يبيع إلا به وإخبارا للمشتري أن هذا لا يضره ويجوز للإنسان أن يدخل في مثل ذلك . فهو إذن في الشراء مع اشتراط البائع ذلك وإذن في الدخول معهم في اشتراطه لعدم الضرر في ذلك ونفس الحديث صريح في أن مثل هذا الشرط الفاسد لا يفسد العقد . وهذا هو الصواب . وهو قول ابن أبي ليلى وغيره وهو مذهب أحمد في أظهر الروايتين عنه .

                وإنما استشكل الحديث من ظن أن الشرط الفاسد يفسد العقد وليس كذلك ; لكن إن كان المشترط يعلم أنه شرط محرم لا يحل اشتراطه فوجود اشتراطه كعدمه ; مثل هؤلاء القوم . فيصح اشتراء المشتري ويملك المشتري وبلغو هذا الشرط الذي قد علم البائع أنه محرم لا يجوز الوفاء به .

                وأما أولئك القوم فإن كانوا قد علموا بالنهي قبل استفتاء عائشة فلا شبهة . لكن ليس في الحديث ما يدل عليه ; بل فيه { أن النبي صلى الله عليه وسلم قام عشية فقال : ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط } وهذا كان عقب استفتاء عائشة وقد علم أولئك [ ص: 340 ] بهذا بلا ريب وكان عقد عائشة معهم بعد هذا الإعلام من الرسول صلى الله عليه وسلم فإما أن يكونوا تابوا عن هذا الشرط أو أقدموا عليه مع العلم بالتحريم . وحينئذ فلا يضر اشتراطه . هذا هو الذي يدل عليه الحديث وسياقه . ولا إشكال فيه ولله الحمد والمنة .

                وأما إن كان المشترط لمثل هذا الشرط الباطل جاهلا بالتحريم ظانا أنه شرط لازم ، فهذا لا يكون البيع في حقه لازما ولا يكون أيضا باطلا . وهذا ظاهر مذهب أحمد ; بل له الفسخ إذا لم يعلم أن هذا الشرط لا يجب الوفاء به ; فإنه إنما رضي بزوال ملكه بهذا الشرط فإذا لم يحصل له فملكه له إن شاء وإن شاء أن ينفذ البيع أنفذه كما لو ظهر بالمبيع عيب وكالشروط الصحيحة إذا لم يوف له بها إذا باع بشرط رهن أو ضمين فلم يأت به فله الفسخ وله الإمضاء .

                والقول بأن البيع باطل في مثل هذا ضعيف مخالف للأصول ; بل هو غير لازم يتسلط فيه المشتري على الفسخ كالمشتري للمعيب وللمصراة ونحوهما ; فإن حقه مخير بتمكينه من الفسخ . وقد قيل في مذهب أحمد : إن له أرش ما نقص من الثمن بإلغاء هذا الشرط كما قيل مثل ذلك في المعيب وهو أشهر الروايتين عنه . والرواية الأخرى لا يستحق إلا الفسخ ; وإنما له الأرش بالتراضي أو عند تعذر الرد كقول جمهور الفقهاء . وهذا أصح ; فإنه كما أن المشترط لم يرض إلا [ ص: 341 ] بالشرط فلا يلزم البيع بدونه ; بل له الخيار فكذلك الآخر لم يرض إلا بالثمن المسمى وإن كان رضي به مع الشرط فإذا ألغى الشرط وصار الولاء له فهو لم يرض بأكثر من الثمن في هذه الصورة بل إن شاء فسخ البيع فلا يلزم بالزيادة ; بل إذا أعطى الثمن فإن شاء الآخر قبل وأمضى وإن شاء فسخ البيع وإن تراضيا بالأرش جاز لكن لا يلزم به واحد منهما إلا برضاه فإنه معاوضة عن الجزء الفائت .

                وهكذا يقال في نظائر هذا : مثل الصفقة إذا تفرقت . وقيل : يصح البيع في الحلال بقسطه من الثمن كما هو ظاهر مذهب أحمد فإن الذي تفرقت عليه له الفسخ إذا كان لم يرض ببيع هذا بقسطه إلا مع ذلك .

                وأصل العقود أن العبد لا يلزمه شيء إلا بالتزامه أو بإلزام الشارع له . فما التزمه فهو ما عاهد عليه فلا ينقض العهد ولا يغدر . وما أمره الشارع به فهو مما أوجب الله عليه أن يلتزمه وإن لم يلتزمه كما أوجب عليه أن يصل ما أمر الله به أن يوصل من الإيمان بالكتب والرسل ومن صلة الأرحام ; ولهذا يذكر الله في كتابه هذا وهذا كقوله : { الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق } { والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل } .

                [ ص: 342 ] فما أمر الله به أن يوصل فهو إلزام من الله به وما عاهد عليه الإنسان فقد التزمه فعليه أن يوفي بعهد الله ولا ينقض الميثاق . إذا لم يكن ذلك مخالفا لكتاب الله . فمن اشترط شرطا مخالفا لكتاب الله ; مثل أن يريد به أن يستحل ما حرم الله كالذي يبيع الأمة أو يعتقها ويشرط وطأها بعد خروجها من ملكه أو يبيع غيره مملوكا ويشرط أن يكون ولاؤه له لا للمعتق أو يزوج أمته أو قرابته ويشرط أن يكون النسب لغير الأب أو يكون النسب له فالله قد أمر أن يدعى الولد لأبيه والولاء لحمة كلحمة النسب ، فمن ادعي إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين . وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم { أنه نهى عن بيع الولاء وعن هبته } . ولهذا كان عند جمهور العلماء لا يورث أيضا ; ولكن يورث به كالنسب ويكون الولاء للكبر . فقد تبين أن الحديث حق كما جاء والله أعلم .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية