الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وسئل رحمه الله هل ذكر أحد من العلماء أن المشتري الأول إذا لم يجز له التصرف فيها قبل القبض فتلفت يكون ضامنا لها ؟ أو أن جواز التصرف والضمان متلازمان طردا وعكسا ؟ فالنزاع في ذلك مشهور ؟

                التالي السابق


                فأجاب : القولان في مذهب أحمد : وهو طريقة القاضي وأصحابه .

                والمتأخرون من أصحاب أحمد مع أبي حنيفة والشافعية يقولون بتلازم التصرف والضمان فعندهم أن ما دخل في ضمان المشتري جاز تصرفه فيه وما لم يدخل في ضمانه لم يجز تصرفه فيه ; ولهذا طرد الشافعي ذلك في بيع الثمار على الشجر فلم يقل بوضع الجوائح . بناء على أن المشتري إذا قبضها وجاز تصرفه فيها صار ضمانها عليه .

                والقول الثاني : في مذهب أحمد الذي ذكره الخرقي وغيره من المتقدمين وعليه تدل أصول أحمد : أن الضمان والتصرف لا يتلازمان ; ولهذا كان ظاهر مذهب أحمد أن الثمار إذا تلفت قبل تمكن المشتري [ ص: 399 ] من جذاذها . كانت من ضمان البائع مع أن ظاهر مذهبه أنه يجوز للمشتري التصرف فيها بالبيع وغيره فجوز تصرفه فيها مع كون ضمانها على البائع . وقد ثبت بالسنة أن الثمار من ضمان البائع كما في صحيح مسلم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا بعت من أخيك ثمرة فأصابتها جائحة فلا يحل لك أن تأخذ من ثمنها شيئا بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق } .

                ولكن الرواية الأخرى عنه في منع التصرف في هذه الثمار يرافق الطريقة الأولى .

                ومن الحجة لهذه الطريقة : أن منافع الإجارة مضمونة على المؤجر قبل الاستيفاء بمعنى أنها إن تلفت بآفة سماوية كموت الدابة وتعطلت المنافع كانت من ضمان المؤجر لأنها تلفت قبل التمكن من استيفائها مع أنه يجوز للمستأجر التصرف فيها حتى بالبيع في ظاهر المذهب وإن كان عنه رواية أخرى لا يؤجرها بأكثر من الأجرة إذا لم يحدث فيها زيادة ; لئلا يربح فيما لم يضمن وهي مذهب أبي حنيفة . وأبو حنيفة عنده أن المنافع لا تملك بالعقد وإنما تملك بالاستيفاء شيئا فشيئا .

                وأحمد في المشهور عنه هو وغيره يجوزون إجارتها بأكثر من الأجرة ويقولون : هذا ليس ربحا لم يضمن ; لأن هذه المنافع مضمونة على [ ص: 400 ] المشتري بمعنى أنه لو تركها مع القدرة على استيفائها فلم يستوفها كانت من ضمانه ; وإنما تكون مضمونة على البائع إذا تلفت قبل التمكن من استيفائها ولهذا كان ظاهر مذهب أحمد في ( باب الضمان ضمان العقد - الفرق بين ما يتمكن من قبضه وما لم يتمكن ليس هو الفرق بين المقبوض وغيره . ومن ذلك أن الخرقي وغيره يقولون : إن الصبرة المتعينة المبيعة جزافا تدخل في ضمان المشتري بالعقد ولا يجوزون للمشتري بيعها حتى ينقلها لحديث ابن عمر وابن عمر روى الحكمين جميعا . قال من السنة : أن ما أدركته الصفقة حيا مجموعا فهو من ملك المبتاع وقال ما رواه البخاري عنه : { كنا نبتاع الطعام جزافا فنهينا أن نبيعه في مكانه حتى ننقله إلى رحالنا } فقد جاز التصرف حيث يكون الضمان على البائع كما في الثمار ومنع التصرف حيث يكون الضمان على المشتري كالصبرة من الطعام فثبت عدم التلازم بينهما .

                ومن حجة هذا القول أنه ليس كل ما دخل في ضمان المشتري يجوز تصرفه فيه بدليل المقبوض قبضا فاسدا والمقبوض في قبض فاسد .

                أما الأول فلو اشترى قفيزا من صبرة أو رطلا من زبرة ونحو ذلك مما يشترط في إقباضه الكيل أو الوزن : فقبض الصبرة كلها أو الزبرة كلها فإن هذا قبض فاسد لا يبيح له التصرف إلا بتميز ملكه [ ص: 401 ] عن ملك البائع ; ومع هذا فلو تلفت تحت يده كانت مضمونة .

                وأيضا فليس المشتري ممنوعا من جميع التصرفات ; بل السنة إنما جاءت في البيع خاصة ولو أعتق العبد المبيع قبل القبض فقد صح إجماعا . وقد تنازع الناس في الهبة وغيرها . وقد تنازع الناس في غلة الطعام المبيع قبل النهي عن قبضه فإنه هو الذي ثبت في النصوص واتفق عليه العلماء . وكذلك اختلفوا في تفريع هذا الأصل .

                وأصول الشريعة توافق هذه الطريقة فليس كل ما كان مضمونا على شخص كان له التصرف فيه : كالمغصوب والعارية . وليس كل ما جاز التصرف فيه كان مضمونا على المتصرف ; كالمالك : له أن يتصرف في المغصوب والمعار فيبيع المغصوب من غاصبه وممن يقدر على تخليصه منه وإن كان مضمونا على الغاصب كما أن الضمان بالخراج فإنما هو فيما اتفق ملكا ويدا . وأما إذا كان الملك لشخص واليد لآخر ; فقد يكون الخراج للمالك والضمان على القابض .

                وأيضا فبيع الدين ممن هو عليه جائز في ظاهر مذهب أحمد والشافعي وكذلك أبو حنيفة . وعند مالك يجوز بيعه ممن ليس هو عليه وهو رواية عن أحمد ; مع أن الدين ليس مضمونا على المالك .

                وأيضا فالبائع إذا مكن المشتري من القبض : فقد قضى ما عليه ; [ ص: 402 ] وإنما المشتري هو المفرط بترك القبض فيكون الضمان عليه ; بخلاف ما إذا لم يمكنه من القبض : بأن لا يوفيه التوفية المستحقة ; فلا يكيله ولا يزنه ولا يعده فإنه هنا بمنزلة ما لم يوفه إياه من الدين . وإذا لم يفعل البائع ما يجب عليه من التوفية ; كان هو المفرط فكان الضمان عليه ; إذ التفريط يناسب الضمان .

                وأما حل التصرف وحرمته فله أسباب أخر : فقد يكون السبب التمكن من التسليم حتى لا يشابه بيع الغرر . وإذا لم ينقله من مكانه : فقد ينكر البائع البيع ويفضي إلى النزاع . وقد لا يمكنه البائع من التسليم كما اشترط في الرهن القبض ; لأن مقصوده استيفاء الحق من المرهون عند تعذر استيفاء الحق من الراهن . وهذا إنما يتم بأن يكون قابضا للرهن ; بخلاف ما إذا كان بيد الراهن فإنه يحول بينهما .

                وقد يكون سبب ذلك أن المقصود بالعقود هو التقابض وبالقبض يتم العقد ويحصل مقصوده ; ولهذا إذا أسلم الكفار وتحاكموا إلينا وقد تعاقدوا عقودا يجوزونها وتقابضوها : لم نفسخها ; وإن كانت محرمة في دين المسلمين وإن كان قبل التقابض نقضناها ; لئلا يفضي إلى الإذن بعد الاسم في قبض محرم . فالبيع قبل قبضه لم يتم ملك المشتري عليه ; [ ص: 403 ] بل هو يتعرض للآفات شرعا وكونا فكان بيعها قبل القبض من جنس بيع الغرر ; ولهذا نهى عن بيع المغانم قبل القبض ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عنده ; لعدم تمكنه من القبض الواجب عليه بالعقد . وإن كان من الناس من يجعل الحديث متناولا للدين والعين ويجعل التسليم مستثنى منه . ومنهم من يخصه بالعين ويفسره ببيع عين لم يملكها ويجعل معنى " ما ليس عندك " : ما ليس في ملكك . ومنهم من يحمله على الملك واليد جميعا أو يشترط في المبيع أن يكون مملوكا مقبوضا فلا يجوز بيع المملوك الذي لا يتمكن من تسليمه وهو من بيع الغرر : كالعبد الآبق والفرس الشارد .

                وهذا حجة من منع بيع الدين ممن ليس عليه . قال : لأنه غرر ليس بمقبوض . ومن جوزه قال : بيعه كالحوالة عليه وكبيع المودع والمعار فإنه مقبوض حكما ; ولهذا جوزنا بيع الثمار . وظاهر مذهب أحمد أنه إذا اشترى ثمرة بادية الصلاح وقبض ثمنها فإنها تكون من ضمان البائع ; لأن عليه القبض إلى كمال الجذاذ والمشتري لم يتمكن من جذاذها ولكن جاز تمكنه منها إذا خلى بينه وبينها : بجعل التصرف . وقبضها التخلية وجعل في الضمان قبضها التمكن من الانتفاع الذي هو المقصود بالعقد . ولغموض مأخذ هذه المسائل كثر تنازع الفقهاء فيها ولم يطرد إلى التوهم فيها قياس كما تراه .

                [ ص: 404 ] وكثير منهم لا يلحظ فيها معنى ; بل يتمسك فيها بظاهر النصوص وكل منهما قد يتناقض فيها ; لكن قد جعل على حمل المذاهب فيها والله أعلم .




                الخدمات العلمية