الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            3190 - ( وعن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { تكون أمتي فرقتين ، فيخرج من بينهما مارقة يلي قتلهم أولاهما بالحق وفي لفظ : تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحق } . رواهما أحمد ومسلم ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            قوله : ( بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم ) بفتح الأول من يقسم ، ولم يذكر المقسوم . وقد ذكره في الرواية الثانية من طريق عبد الرحمن بن أبي نعيم عن أبي سعيد أن المقسوم ذهيبة بعثه علي بن أبي طالب رضي الله عنه من اليمن ، فقسمه النبي بين الأربعة المذكورين . قوله : ( ذو الخويصرة ) بضم الخاء المعجمة وفتح الواو وسكون التحتية وكسر الصاد المهملة بعدها راء ، واسمه حرقوص بن زهير التميمي . وقد ذكر حرقوصا في الصحابة أبو جعفر الطبري وذكر أن له في فتوح العراق أثرا ، وأنه الذي افتتح سوق الأهواز ثم كان مع علي في حروبه ثم صار مع الخوارج فقتل معهم ، وزعم بعضهم أنه ذو الثدية ، ووقع نحو ذلك في رواية للطبري عن أبي مريم ، قال الحافظ : وليس كذلك .

                                                                                                                                            قوله : ( اعدل ) في الرواية الثانية المذكورة ، فقال : " اتق الله يا محمد " وفي حديث ابن عمرو عند البزار والحاكم فقال : " يا محمد والله لئن كان الله أمرك أن تعدل ما أراك تعدل " وفي لفظ آخر له : " اعدل يا محمد " .

                                                                                                                                            وفي حديث أبي بكرة " والله يا محمد ما تعدل " .

                                                                                                                                            وفي لفظ : " ما أراك عدلت " ونحوه في حديث أبي برزة . قوله : ( ويلك ) في لفظ للبخاري : " ويحك " وهي رواية الكشميهني والرواية الأولى رواية شعيب والأوزاعي . قوله : ( فمن يعدل إذا لم أعدل ) في رواية للبخاري " من يطع الله إذا عصيته " ولمسلم : " أولست أحق أهل الأرض أن أطيع الله ؟ " وفي حديث ابن عمر : " وممن يلتمس العدل بعدي ؟ " وفي رواية له " العدل إذا لم يكن عندي فعند من يكون ؟ " وفي حديث أبي بكرة " فغضب حتى احمرت وجنتاه " .

                                                                                                                                            وفي حديث أبي برزة [ ص: 194 ] فغضب غضبا شديدا وقال : والله لا تجدون بعدي رجلا هو أعدل عليكم مني " . قوله : ( فقال عمر : أتأذن لي فيه فأضرب عنقه ) في حديث أبي سعيد الآخر المذكور فسأله رجل " أحسبه خالد بن الوليد " وفي رواية لمسلم " فقال خالد بن الوليد " بالجزم ، ويجمع بينهما بأن كل واحد منهما سأله ، ويؤيد ذلك ما وقع في مسلم بلفظ : " فقام عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله ألا أضرب عنقه ؟ قال : لا " . قوله : ( دعه ) في رواية للبخاري " لا " وفي أخرى " ما أنا بالذي أقتل أصحابي " . قوله : ( فإن له أصحابا ) ظاهر هذا أن ترك الأمر بقتله بسبب أن له أصحابا على الصفة المذكورة وهذا لا يقتضي ترك قتله مع ما أظهره من مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم بما واجهه ، فيحتمل أن يكون لمصلحة التأليف كما فهمه البخاري فإنه بوب على هذا الحديث : باب من ترك قتال الخوارج للتأليف ولئلا ينفر الناس عنه ، لأنه وصفهم بالمبالغة في العبادة من إظهار الإسلام ، فلو أذن في قتلهم لكان في ذلك تنفير عن دخول غيرهم في الإسلام . قوله : ( يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ) في رواية بصيغة الإفراد ، ويحقر بفتح أوله : أي يستقل .

                                                                                                                                            قوله : ( لا يجاوز تراقيهم ) بمثناة فوقية وقاف جمع ترقوة بفتح أوله وسكون الراء وضم القاف وهي العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق ، والمعنى أن قراءتهم لا يرفعها الله ولا يقبلها . وقيل : لا يعملون بالقرآن فلا يثابون على قراءتهم فلا يحصل لهم إلا سرده . وقال النووي : المراد أنهم ليس لهم فيه حظ إلا مروره على ألسنتهم لا يصل إلى حلوقهم فضلا عن قلوبهم ; لأن المطلوب تعقله وتدبره بوقوعه في القلب . قوله : ( يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ) تقدم تفسيره في أول الباب . قوله : ( ينظر إلى نصله ) أي نصل السهم وهو الحديدة المركبة فيه ، والمراد أنه ينظر إلى ذلك ليعرف هل أصاب أم أخطأ ، فإنه إذا لم يره علق به شيء من الدم ولا غيره ظن أنه لم يصبه ، والفرض أنه أصابه ، وإلى ذلك أشار بقوله : قد سبق الفرث والدم : أي جاوزهما ، ولم يتعلق به منهما شيء بل خرجا بعده .

                                                                                                                                            قوله : ( ثم ينظر إلى رصافه ) الرصاف اسم للعقب الذي يلوى فوق الرعظ من السهم ، يقال : رصف السهم شد على رعظه عقبه كذا في القاموس . قوله : ( ثم ينظر إلى نضيه ) بفتح النون وكسر الضاد المعجمة وتشديد الياء . قال في القاموس : هو سهم فسد من كثرة ما رمي به ، قال : والنضي كغني : السهم بلا نصل ولا ريش . قوله : ( ثم ينظر إلى قذذه ) جمع قذة بضم القاف وتشديد الذال المعجمة : وهي ريش السهم والمراد أن الرامي إذا أراد أن يعرف هل أصاب أم لا ؟ نظر إلى السهم والنصل هل بهما شيء من الدم ، فإن لم يجد قال : إن كنت أصبت فإن بالنضي أو الريش شيئا من الدم ، فإذا نظر فلم يجد شيئا عرف أنه لم يصب ، وهذا مثل ضربه النبي صلى الله عليه وسلم للخوارج أبان [ ص: 195 ] به أنهم يخرجون من الإسلام لا يعلق بهم منه شيء ، كما أنه لم يعلق بالسهم من الدم والفرث شيء .

                                                                                                                                            قوله : ( أو مثل البضعة ) بفتح الموحدة وسكون المعجمة القطعة من اللحم . قوله : ( تدردر ) بفتح أوله ودالين مهملتين مفتوحتين بينهما راء ساكنة وآخره راء وهو على حذف إحدى التاءين ، وأصله تتدردر ومعناه تتحرك وتذهب وتجيء ، وأصله حكاية صوت الماء في بطن الوادي إذا تدافع . قوله : ( يخرجون على حين فرقة من الناس ) في كثير من الروايات " حين فرقة " بكسر الحاء المهملة وآخره نون ، ويؤيد هذه الرواية الرواية المذكورة في الباب عن أبي سعيد بلفظ : " عند فرقة من الناس " وفي رواية لأحمد وغيره : " حين فترة من الناس " بفتح الفاء وسكون المثناة الفوقية ، ووقع للكشميهني " خير فرقة " بفتح الخاء المعجمة وآخره راء وفرقة بكسر الفاء ، والرواية الأولى هي المعتمدة .

                                                                                                                                            قوله : ( " فأشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأشهد أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قاتلهم ) في رواية للبخاري : " وأشهد أن عليا قتلهم " نسب القتل إلى علي لكونه كان القائم في ذلك . قوله : ( بذهيبة ) بضم الذال المعجمة وفتح الهاء تصغير ذهبة . قوله : ( وعلقمة بن علاثة العامري ) بضم العين المهملة وبالمثلثة . قوله : ( صناديد أهل نجد ) جمع صنديد : وهو الشجاع أو الحليم أو الجواد أو الشريف على ما في القاموس . قوله : ( غائر العينين ) بالغين المعجمة والمراد أن عينيه منحدرتان عن الموضع المعتاد ، ووجنتيه مشرفتان : أي مرتفعتان عن المكان المعتاد وجبينه ناتئ أي بارز . قوله : ( محلوق ) أي رأسه جميعه محلوق . وقد ورد ما يدل على أن حلق الرءوس من علامات الخوارج كما في حديث أبي سعيد عند أبي داود والطبراني بلفظ : " قيل : يا رسول الله ما سيماهم ؟ قال : التحليق " .

                                                                                                                                            وفي رواية أخرى من حديثه بلفظ : " فقام رجل فقال : يا نبي الله هل في هؤلاء القوم علامة ؟ قال : يحلقون رءوسهم " .

                                                                                                                                            قوله : ( من ضئضئ ) بضادين معجمتين مكسورتين بينهما همزة ساكنة وآخره همزة ، قال في القاموس : الضئضئ كجرجر وجرجير والضؤضؤ كهدهد وسرسور : الأصل والمعدن أو كثرة النسل وبركته انتهى . قوله : ( أولاهما بالحق ) فيه دليل على أن عليا ومن معه هم المحقون ، ومعاوية ومن معهم هم المبطلون ، وهذا أمر لا يمتري فيه منصف ولا يأباه إلا مكابر متعسف ، وكفى دليلا على ذلك الحديث . وحديث " يقتل عمارا الفئة الباغية " وهو في الصحيح .

                                                                                                                                            وقد وردت في الخوارج أحاديث . منها : ما أخرجه الطبري عن أبي بكرة يرفعه : { إن في أمتي أقواما يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، فإذا لقيتموهم فأنيموهم } أي اقتلوهم .

                                                                                                                                            وأخرج الطبري وأبو يعلى أيضا من رواية مسروق قال : " قالت لي عائشة : من قتل المخدج ؟ قلت : علي ، قالت : فأين ؟ قلت : على نهر يقال لأسفله النهروان ، [ ص: 196 ] قالت : ائتني على هذا ببينة ، فأتيتها بخمسين نفسا فشهدوا أن عليا قتله بالنهروان " .

                                                                                                                                            وأخرج الطبراني في الأوسط من طريق عامر بن سعيد قال عمار لسعد : أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { يخرج قوم من أمتي يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية يقتلهم علي بن أبي طالب ؟ قال : إي والله } .

                                                                                                                                            وأخرج يعقوب بن سفيان من طريق عمران بن حدير عن أبي مجلز قال : " كان أهل النهروان أربعة آلاف فقتلهم المسلمون ولم يقتل من المسلمين سوى تسعة ، فإن شئت فاذهب إلى أبي برزة فسله فإنه شهد ذلك " . وأخرج إسحاق بن راهويه في مسنده من طريق حبيب بن أبي ثابت قال : أتيت أبا وائل فقلت : أخبرني عن هؤلاء القوم الذين قتلهم علي فيم فارقوه وفيم استحل قتالهم ؟ قال : لما كان بصفين استحر القتل في أهل الشام فرفعوا المصاحف ، فذكر قصة التحكيم ، فقال الخوارج ما قالوا ونزلوا حروراء ، فأرسل إليهم علي فرجعوا ثم قالوا : نكون في ناحية ، فإن قبل القضية قاتلناه ، وإن نقضها قاتلنا معه ، ثم افترقت منهم فرقة يقتلون الناس ، فحدث علي عن النبي صلى الله عليه وسلم بأمرهم وأخرج أحمد والطبراني والحاكم من طريق

                                                                                                                                            عبد الله بن شداد أنه دخل على عائشة مرجعه من العراق ليالي قتل علي فقالت له عائشة : تحدثني عن أمر هؤلاء القوم الذين قتلهم علي ، قال : إن عليا لما كاتب معاوية وحكم الحكمين خرج عليه ثمانية آلاف من قراء الناس فنزلوا بأرض يقال لها : حروراء من جانب الكوفة ، وعتبوا عليه فقالوا : انسلخت من قميص ألبسكه الله ، ومن اسم سماك الله به ، ثم حكمت الرجال في دين الله ولا حكم إلا لله ، فبلغ ذلك عليا ، فجمع الناس فدعا بمصحف عظيم ، فجعل يضربه بيده ويقول أيها المصحف حدث الناس ، فقالوا : ماذا تسأل إنما هو مداد وورق ونحن نتكلم بما روينا منه ، فقال : كتاب الله بيني وبين هؤلاء ، يقول الله في امرأة ورجل : { وإن خفتم شقاق بينهما } الآية . وأمة محمد أعظم من امرأة ورجل ، ونقموا علي أن كاتبت معاوية وقد كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم سهيل بن عمرو ، ولقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ، ثم بعث إليهم ابن عباس فناظرهم ، فرجع منهم أربعة آلاف منهم عبد الله بن الكواء ، فبعث علي إلى الآخرين أن يرجعوا فأبوا ، فأرسل إليهم : كونوا حيث شئتم وبيننا وبينكم أن لا تسفكوا دما حراما ، ولا تقطعوا سبيلا ، ولا تظلموا أحدا ، فإن فعلتم نبذت إليكم الحرب . قال عبد الله بن شداد : فوالله ما قتلهم حتى قطعوا السبيل وسفكوا الدم الحرام "

                                                                                                                                            الحديث . وأخرج النسائي في الخصائص صفة مناظرة ابن عباس لهم بطولها .

                                                                                                                                            وفي الأوسط للطبراني عن جندب بن عبد الله البجلي قال : " لما فارقت الخوارج عليا خرج في طلبهم ، فانتهينا [ ص: 197 ] إلى عسكرهم فإذا له دوي كدوي النحل من قراءة القرآن ، وإذا فيهم أصحاب البرانس : يعني الذين كانوا معروفين بالزهد والعبادة ، قال : فدخلني من ذلك شدة ، فنزلت عن فرسي وقمت أصلي ، وقلت : اللهم إن كان في قتال هؤلاء القوم لك طاعة فأذن لي فيه ، فمر بي علي ، فقال لما حاذاني : تعوذ بالله من الشك يا جندب ، فلما جئته أقبل رجل على برذون يقول : إن كان لك بالقوم حاجة فإنهم قد قطعوا النهر ، قال : ما قطعوه ، ثم جاء آخر كذلك ، ثم جاء آخر كذلك ، قال : لا ما قطعوه ولا يقطعونه ، وليقتلن من دونه عهد من الله ورسوله ، قلت : الله أكبر ، ثم ركبنا فسايرته فقال لي : سأبعث إليهم رجلا يقرأ المصحف يدعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيهم فلا يقبل علينا بوجهه حتى يرشقوه بالنبل ولا يقتل منا عشرة ولا ينجو منهم عشرة . قال : فانتهينا إلى القوم فأرسل إليهم رجلا فرماه إنسان ، فأقبل علينا بوجهه فقعد . وقال علي : دونكم القوم ، فما قتل منا عشرة ولا نجا منهم عشرة "

                                                                                                                                            . وأخرج يعقوب بن سفيان بسند صحيح عن حميد بن هلال قال : حدثنا رجل من عبد القيس قال : لحقت بأهل النهروان مع طائفة منهم أسيرا إذ أتينا على قرية بيننا نهر ، فخرج رجل من القرية مروعا فقالوا له : لا روع عليك ، وقطعوا إليه النهر فقالوا : أنت ابن خباب بن الأرت صاحب النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم قالوا : فحدثنا عن أبيك ، فحدثهم بحديث { تكون فتنة فإن استطعت أن تكون عبد الله المقتول فكن } فقدموه فضربوا عنقه ثم دعوا سريته وهي حبلى فبقروا عما في بطنها . ولابن أبي شيبة من طريق أبي مجلز قال : قال علي لأصحابه : لا تبدءوهم بقتال حتى يحدثوا حدثا ، قال : فمر بهم عبد الله بن خباب فذكر قتلهم له ولجاريته وأنهم بقروا بطنها ، وكانوا مروا على ساقية فأخذ واحد منها تمرة فوضعها في فيه ، فقالوا : له تمرة معاهد فبم استحللتها ؟ فقال لهم عبد الله بن خباب : أنا أعظم حرمة من هذه التمرة ، فأخذوه فذبحوه فبلغ عليا ، فأرسل إليهم : أقيدونا بقاتل عبد الله بن خباب ، فقالوا : كلنا قتله ، فأذن حينئذ في قتالهم

                                                                                                                                            وأخرج الطبري من طريق أبي مريم قال : أخبرني أخي أبو عبد الله أن عليا سار إليهم حتى إذا كان حذاءهم على شط النهروان أرسل يناشدهم فلم تزل رسله تختلف إليهم حتى قتلوا رسوله ، فلما رأى ذلك نهض إليهم فقاتلهم حتى فرغ منهم كلهم .

                                                                                                                                            وقد روي عن أبي سعيد الخدري قصة أخرى تتعلق بالخوارج فيها ما يخالف ما أسلفنا في أول الباب ، أخرج أحمد بسند جيد عن أبي سعيد قال { جاء أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني مررت بوادي كذا ، فإذا رجل حسن الهيئة متخشع يصلي فيه ، فقال اذهب إليه فاقتله ، قال : فذهب إليه أبو بكر فلما رآه يصلي كره أن يقتله ، فرجع ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر : اذهب فاقتله ، فرآه يصلي على تلك الحالة فرجع ، فقال : يا علي [ ص: 198 ] اذهب فاقتله ، فذهب علي فلم يره ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن هذا وأصحابه يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية لا يعودون فيه فاقتلوهم هم شر البرية } . قال الحافظ : بعد أن قال إن إسناده جيد : له شاهد من حديث جابر أخرجه أبو يعلى ورجاله ثقات . قال : ويمكن الجمع بأن يكون هذا الرجل هو الأول وكانت قصة هذه الثانية متراخية عن الأولى ، وأذن صلى الله عليه وسلم في قتله بعد أن منع لزوال علة المنع وهي التآلف ، وكأنه استغنى عنه بعد انتشار الإسلام ، كما نهي عن الصلاة على من ينسب إلى النفاق بعد أن كان يجري عليهم أحكام الإسلام قبل ذلك وكأن أبا بكر وعمر تمسكا بالنهي الأول عن قتل المصلين وحملا الأمر هنا على قيد أن يكون لا يصلي فلذلك عللا عدم القتل بوجود الصلاة أو غلبا جانب النهي .



                                                                                                                                            وفي أحاديث الباب دليل على مشروعية الكف عن قتل من يعتقد الخروج على الإمام ما لم ينصب لذلك حربا أو يستعد له ; لقوله صلى الله عليه وسلم : " فإذا خرجوا فاقتلوهم " وقد حكى الطبري الإجماع على ذلك في حق من لا يكفر باعتقاده . وقد اختلف أهل العلم في تكفير الخوارج ، وقد صرح بالكفر القاضي أبو بكر بن العربي في شرح الترمذي فقال : الصحيح أنهم كفار لقوله صلى الله عليه وسلم : " يمرقون من الدين " ولقوله : " لأقتلنهم قتل عاد " وفي لفظ " ثمود " وكل إنما هلك بالكفر ولقوله : " هم شر الخلق " ولا يوصف بذلك إلا الكفار ولقوله : " إنهم أبغض الخلق إلى الله تعالى " ولحكمهم على كل من خالف معتقدهم بالكفر والتخليد في النار فكانوا هم أحق بالاسم منهم ، وممن جنح إلى ذلك من المتأخرين الشيخ تقي الدين السبكي فقال في فتاويه : احتج من كفر الخوارج وغلاة الروافض بتكفيرهم أعلام الصحابة لتضمنه تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم في شهادته لهم بالجنة ، قال : وهو عندي احتجاج صحيح . قال : واحتج من لم يكفرهم بأن الحكم بتكفيرهم يستدعي تقدم علمهم بالشهادة المذكورة علما قطعيا ، وفيه نظر لأنا نعلم تزكية من كفروه علما قطعيا إلى حين موته وذلك كاف في اعتقادنا تكفير من كفرهم ، ويؤيده حديث : " من قال لأخيه : يا كافر فقد باء بها أحدهما " .

                                                                                                                                            وفي لفظ لمسلم : { من رمى مسلما بالكفر أو قال : يا عدو الله إلا حار عليه } قال : وهؤلاء قد تحقق منهم أنهم يرمون جماعة بالكفر ممن حصل عندنا القطع بإيمانهم ، فيجب أن يحكم بكفرهم بمقتضى خبر الشارع وهو نحو ما قالوه فيمن سجد للصنم ونحوه ممن لا تصريح فيه بالجحود بعد أن فسروا الكفر بالجحود ، فإن احتجوا بقيام الإجماع على تكفير فاعل ذلك قلنا : وهذه الأخبار الواردة في حق هؤلاء تقتضي كفرهم ، ولو لم يعتقدوا تزكية من كفروه علما قطعيا ، ولا ينجيهم اعتقاد الإسلام إجمالا ، والعمل بالواجبات عن الحكم بكفرهم كما لا ينجي الساجد للصنم ذلك .

                                                                                                                                            قال الحافظ : وممن جنح [ ص: 199 ] إلى بعض هذا المحب الطبري في تهذيبه فقال بعد أن سرد أحاديث الباب : فيه الرد على قول من قال : لا يخرج أحد من الإسلام من أهل القبلة بعد استحقاقه حكمه إلا بقصد الخروج منه عالما فإنه مبطل لقوله في الحديث : { يقولون الحق ويقرءون القرآن ويمرقون من الإسلام ولا يتعلقون منه بشيء } ومن المعلوم أنهم لم يرتكبوا استحلال دماء المسلمين وأموالهم إلا لخطإ منهم فيما تأولوه من آي القرآن على غير المراد منه . ويؤيد القول بالكفر ما تقدم من الأمر بقتالهم وقتلهم مع ما ثبت من حديث ابن مسعود { إنه لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ، وفيه : التارك لدينه المفارق للجماعة } كما تقدم .

                                                                                                                                            وقال القرطبي في المفهم : يؤيد القول بتكفيرهم ما في الأحاديث من أنهم خرجوا من الإسلام ولم يتعلقوا منه بشيء كما خرج السهم من الرمية لسرعته وقوة راميه بحيث لم يتعلق من الرمية بشيء ، وقد أشار إلى ذلك بقوله : " سبق الفرث والدم " . وحكي في الفتح عن صاحب الشفاء أنه قال فيه : وكذا نقطع بكفر من قال قولا يتوصل به إلى تضليل الأمة أو تكفير الصحابة . وحكاه صاحب الروضة في كتاب الردة عنه وأقره . وذهب أكثر أهل الأصول من أهل السنة إلى أن الخوارج فساق ، وأن حكم الإسلام يجري عليهم لتلفظهم بالشهادتين ومواظبتهم على أركان الإسلام ، وإنما فسقوا بتكفير المسلمين مستندين إلى تأويل فاسد ، وجرهم ذلك إلى استباحة دماء مخالفيهم وأموالهم والشهادة عليهم بالكفر والشرك .

                                                                                                                                            وقال الخطابي : أجمع علماء المسلمين على أن الخوارج مع ضلالتهم فرقة من فرق المسلمين ، وأجازوا مناكحتهم وأكل ذبائحهم وأنهم لا يكفرون ما داموا متمسكين بأصل الإسلام . وقال القاضي عياض : كادت هذه المسألة أن تكون أشد إشكالا عند المتكلمين من غيرها حتى سأل الفقيه عبد الحق الإمام أبا المعالي عنها فاعتذر بأن إدخال كافر في الملة ، وإخراج مسلم عنها عظيم في الدين . قال : وقد توقف القاضي - أبو بكر الباقلاني قال : ولم يصرح القوم بالكفر وإنما قالوا أقوالا تؤدي إلى الكفر .

                                                                                                                                            وقال الغزالي في كتاب التفرقة بين الإيمان والزندقة : الذي ينبغي الاحتراز عن التكفير ما وجد إليه سبيلا ، فإن استباحة دماء المسلمين المقرين بالتوحيد خطأ ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطإ في سفك دم مسلم واحد . قال ابن بطال : ذهب جمهور العلماء إلى أن الخوارج غير خارجين من جملة المسلمين . قال : وقد سئل علي عن أهل النهروان هل كفروا فقال : من الكفر فروا .

                                                                                                                                            قال الحافظ : وهذا إن ثبت عن علي حمل على أنه لم يكن اطلع على معتقدهم الذي أوجب تكفيرهم عند من كفرهم . قال القرطبي : في المفهم : والقول بتكفيرهم أظهر في الحديث ، قال : فعلى القول بتكفيرهم يقاتلون ويقتلون وتغنم أموالهم وهو قول طائفة من أهل الحديث في أموال الخوارج ، وعلى القول بعدم [ ص: 200 ] تكفيرهم يسلك بهم مسلك أهل البغي إذا شقوا العصا ونصبوا الحرب . قال : وباب التكفير باب خطر ولا نعدل بالسلامة شيئا .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية