الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                الثالث : قال الطرطوشي : تجوز المفاوضة ، وهي أن يفوض كل واحد التصرف في البيع ، والشراء ، والضمان ، والكفالة ، والتوكيل ، والقراض ، وما فعله لزم الآخر إن كان عائدا إلى تجارتهما ، ولا يكونان شريكين إلا فيما يعقدان عليه الشركة من أموالهما دون ما ينفرد به كل واحد من ماله سواء اشتركا في كل ما يملكانه أو بعضه - كان رأس المال متفاضلا أم لا إذا كان الربح والعمل على قدر ذلك . وجوزها ( ح ) ، وخالفنا في أنها لا تصح إلا بالنقدين ، والفلوس الرائجة . ولابد أن يخرج عنده كل واحد جميع ما يملكه من ذلك ، ومنع تفاضل رأس المال . ولا تصح إلا من مسلمين حرين ، أو مكاتبين ، ولا تصح من حر ، ومكاتب ، ولا مسلم ، وكافر ، ولا صبي ، وبالغ . واشترط التساوي في الربح والخسران ، وفيما يحصل [ ص: 54 ] لأحدهما منفردا كأجرة خياطة ، ويلزمه ما يلزم الآخر من ضمان ، أو غصب ، أو سرقة ، أو عقد فاسد ، وفيما يشتريه الآخر بخالص ماله يشاركه الآخر فيه دون ما يرثه ، ويوهب له مما لا تصح فيه الشركة كالعروض ، والحيوان عنده . فخالفنا في هذه الأحكام . وقال ( ش ) : شركة المفاوضة فاسدة ، وإنما تجوز شركة العنان بأربعة شروط : الأول : استواء المالين في الجنس والصفة ، والثاني : خلطها ، والثالث : إذن كل واحد في التصرف ، والرابع : اتفاقهما على أن الربح والخسران على قدر المال .

                                                                                                                ومنشأ الخلاف اشتمالهما على المفسد ، والمصحح ، فنحن غلبنا المصحح ، وهو غلب المفسد حتى قال : هي أشد من القمار ، ولا يبقى شيء فاسد إذا أجيزت .

                                                                                                                لنا : قوله تعالى : ( أوفوا بالعقود ) وقوله عليه السلام : المؤمنون عند شروطهم . وروي : إذا تفاوضتم فأحسنوا المفاوضة ، وروي : تفاوضوا فإن المفاوضة أعظم اليمن ، وأعظم البركة ، وهو غير معروف الصحة . وبالقياس على شركة العنان ، ولأنها وكالة وكفالة ، فيصحان مجتمعين كما صحا منفردين . أو تقول الضمان يوجب ثبوت المال في الذمة فيثبت مع الشركة كالبيع ، ويؤكده أن الشركة منعقدة على الربح ، وهو غرر لا يدرى حصوله ، وضمان أحدهما وكفالته ليس بمعقود عليه ، فإذا لم يمنع الغرر في المعقود عليه - أولى ألا يمتنع في غير المعقود عليه الذي يأتي بالفرض . ولأن الربح يكون قبالة المال كشركة العنان ، وقبالة العمل كالقراض فيصح اجتماعهما في المفاوضة .

                                                                                                                احتج بنهيه عن الغرر ، وهذا غرر ; لأن أحدهما ربما ضمن ما يأتي على المالين ، وبقوله " كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ، وإن كان مائة شرط " وهذه ليست في كتاب الله ، أو لأنها تضمنت أخذ ربح مال انفرد به أحدهما فتمتنع كما إذا انفرد ؛ جمع المالين . أو نقول تضمنت أن لكل واحد ما استفاده الآخر ، فتبطل كما لو اشترط ما يرثه الآخر فهو له .

                                                                                                                [ ص: 55 ] والجواب عن الأول : أن الغرر الغالب عليه عدم الحصول ، والغالب على الشركة السلامة ، وعن الثاني : أن هذه في كتاب الله تعالى لقوله تعالى : ( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ) وقوله تعالى : ( إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) وهذه تجارة ، وغنيمة ، وعن الثالث : منع الحكم في الأصل ثم الفرق حصول الرفق هاهنا ، وإنما يأخذ أحدهما ربحه ، له ملكه ، وحصول ربح الملك جائز بخلاف ربح بغير ملك ، وعن الرابع : أنه ينتقض بشركة العنان ثم الفرق برفق التعاون هاهنا بخلاف المقيس عليه .

                                                                                                                واحتج ( ح ) بأن المفاوضة مأخوذة من المساواة لقول الشاعر :


                                                                                                                لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا



                                                                                                                فيستويان في جميع الوجوه . قلنا بجملة المساواة فيما يحصل الرفق ، ولا ضرورة إلى تكثير الغرر .

                                                                                                                واعلم أن مذهبنا متوسط ، فالشافعي منع غررها جملة ، و ( ح ) جوزه جملة ، ونحن أجزنا ما تدعو إليه حاجة الارتفاق ، والغرر لا تكاد تعرى عنه البياعات ، فكيف الشركة التي خالفت الصرف ، والبيع في عدم المناجزة ، والتسليم لبقاء يد كل واحد على ما شارك به .

                                                                                                                تفريع في الجواهر : إن كان العمل منهما جميعا ، ولا يستد به أحدهما سمي عنانا ، وإن كان أحدهما يجوز له الاستبداد في جميع التصرفات حضر الآخر أو غاب ، ويلزمه تصرفه في المفاوضة . قال في الكتاب : لا أعرف الشركة لعبدين من قول مالك ، ولا غيره من أهل الحجاز .

                                                                                                                فائدة : اشتقاقهما . قال الطرطوشي : لأنهما يستويان في التصرف والأرباح كالفارسين إذا استويا في السير ، فإن عنانيهما يكونان سواء . وقيل : من عن الشيء [ ص: 56 ] إذا اعترض ، عنت لي حاجة إذا اعترضت ، ومنه عنان السماء - بفتح العين - جمع عنانة ، وهي السحابة المعترضة بين السماء . وكل واحد منهما عن له أن يشارك صاحبه ، أو لأنها شركة ظاهرة عن الشجر إذا ظهر . وليس في الشركات ما يثبت في أمر ظاهر إلا هي ; لأنها في مالين ظاهرين موجودين ، والمفاوضة تكون فيما لم يظهر . وكذلك الأبدان ، والوجوه ، أو لأن الفارس يمسك بأحد يديه عنان الفرس ، ويرسل الأخرى يتصرف فيها كيف شاء ، وهو هاهنا تنفيذ في مال الشركة ، ويتصرف في ماله كيف أحب ، وفي المفاوضة ليس لأحدهما الانفراد ، أو من المعاينة ، يقال : عاينت فلانا إذا عارضته بمثل ماله ، وهاهنا عارض أحدهما صاحبه بمثل ماله ، وهي لفظة عربية لقول الشاعر


                                                                                                                وشاركنا قريشا في علاها     وفي أحسابها شرك العنان



                                                                                                                والمفاوضة - قال صاحب التنبيهات : من التفويض لتفويض كل واحد الأموال لصاحبه كقوله تعالى : ( وأفوض أمري إلى الله ) وقيل : من التساوي كقوله تفاوضنا في الحديث .

                                                                                                                وشركة العنان متفق على جوازها ، ولم يعرف مالك مرة اسمها ، أو تخصيصها بالجواز . ويقال : عنان - بكسر العين - وهو الأكثر لمن اشتقه من عنان الدابة ، وبالفتح إذا أخذ من عن لي الشيء إذا اعترض .

                                                                                                                وفي الكتاب : إذا قامت البينة أنه مفاوضكما على الثلث ، أو الثلثين صح . ويتفاوضان ، لأحدهما عين ، أو عرض دون الآخر ، وإن قامت أنه مفاوضك ، فلا يختص أحدهما ، وجميع ما بأيديكما بينكما إلا ببينة تخصه ، وما ابتاع أحدكما بيعا صحيحا ، أو فاسدا لزم الآخر ، ويتبع البائع بالثمن أو القيمة أيكما شاء ، ولأحدكما قضاء ما يختص بالآخر من دين ، وللمأذون مفاوضة الحر .

                                                                                                                قال اللخمي : إنما يكون جميع ما بأيديهما بينهما إذا أنكر المشهود عليه [ ص: 57 ] المفاوضة ، فلو أقر وقال : الثلث والثلثين اقتسما السدس نصفين على أصله إلا أن يكون قوم لا يتفاوضون إلا سواء . ولو قامت البينة على أن شريكه لم يفض بالشركة في جميع أملاكهما لصدق الاسم على بعض المال ، ولو أقر أني شريك فلان في القليل ، والكثير ، فكالمتفاوضين ، ولا يقبل إقرار أحدهما على الآخر بدين ، ولا وديعة . وإذا تقاررا بالشركة فما في أيديهما من التجارة بينهما دون مسكن ، وخادم ، وطعام . وإذا قال أحدهما هذا ليس من الشركة ، بل وراثة ، أو هبة ، أو بضاعة لرجل ، أو وديعة - صدق مع يمينه إلا أن تقوم بينة أنه اشتراه ، أو كان في يده يوم أقر .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                في الكتاب : تجوز المفاوضة إما في جميع الأشياء ، أو في نوع كالرقيق أكره أن يخرجا مالا يتجران به ، وبالدين مفاوضة ، فإن فعلا ، فما اشترى كل واحد منهما بينهما ، وإن جاوز رأس ماليهما . ولو تفاوضا ، ولم يذكرا في العقد الدين ، فباع أحدهما به جاز على شريكه ; لأنه مما يعرض في المفاوضة . ولو تفاوضا بأموالهما في جميع التجارات ، وليس لأحدهما مال يخصه ، فاشترى أحدهما من مال الشركة جارية لنفسه ، وأشهد على ذلك خير شريكه في إجازتها ، وردها للشركة ; لأنه مقتضى العقد . قال ابن يونس : يريد : يخير ما لم يطأها بخلاف الغاصب ، والمتعدي في وديعة ابتاع بها سلعة لا يدفع إلا مثل الدنانير ; لأن الشريك مأذون له ، وليس له أن يختص بالربح ، بل هو كمبضع معه بشراء سلعة ، أو مفاوض ، أو وكيل يخير رب المال في الأخذ ; لأنهم مأذون لهم في عين ذلك .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية