الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                        صفحة جزء
                                                        [ ص: 61 ] 5744 - حدثنا عبد الله بن محمد بن خشيش قال : ثنا مسلم قال : ثنا هشام بن أبي عبد الله ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله .

                                                        قال أبو جعفر : فكان هذا ناسخا لما رويناه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إجازة بيع الحيوان بالحيوان نسيئة ، فدخل في ذلك أيضا استقراض الحيوان .

                                                        فقال أهل المقالة الأولى : هذا لا يلزمنا ، لأنا قد رأينا الحنطة لا يباع بعضها ببعض نسيئة ، وقرضها جائز .

                                                        فكذلك الحيوان لا يجوز بيع بعضه ببعض نسيئة ، وقرضه جائز .

                                                        فكان من حجتنا على أهل هذه المقالة في تثبيت المقالة الأولى أن نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة ، يحتمل أن يكون ذلك لعدم الوقوف منه على المثل .

                                                        ويحتمل أن يكون من قبل ما قال أهل المقالة الأولى في الحنطة في البيع والقرض .

                                                        فإن كان إنما نهى عن ذلك من طريق عدم وجود المثل ، ثبت ما ذهب إليه أهل المقالة الثانية ، وإن كان من قبل أنهما نوع واحد لا يجوز بيع بعضه ببعض نسيئة ، لم يكن في ذلك حجة لأهل المقالة الثانية على أهل المقالة الأولى .

                                                        فاعتبرنا ذلك فرأينا الأشياء المكيلات ، لا يجوز بيع بعضها ببعض نسيئة ولا بأس بقرضها .

                                                        ورأينا الموزونات حكمها في ذلك كحكم المكيلات سواء ، خلا الذهب والورق .

                                                        ورأينا ما كان من غير المكيلات والموزونات ، مثل الثياب ؛ وما أشبهها ، فلا بأس ببيع بعضها ببعض ، وإن كانت متفاضلة ، وبيع بعضها ببعض نسيئة ، فيه اختلاف بين الناس .

                                                        فمنهم من يقول : ما كان منها من نوع واحد ، فلا يصلح بيع بعضه ببعض نسيئة .

                                                        وما كان منها من نوعين مختلفين ؛ فلا بأس ببيع بعضه ببعض نسيئة .

                                                        وممن قال بهذا القول ، أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد - رحمة الله عليهم أجمعين - .

                                                        ومنهم من يقول : لا بأس ببيع بعضها ببعض ، يدا بيد ونسيئة ، وسواء عنده كانت من نوع واحد أو من نوعين .

                                                        [ ص: 62 ] فهذه أحكام الأشياء المكيلات والموزونات والمعدودات ، غير الحيوان ، على ما نشرنا .

                                                        فكان غير المكيل والموزون ، لا بأس ببيعه ، بما هو من خلاف نوعه ، نسيئة ، وإن كان المبيع والمبتاع به ثيابا كلها ، وكان الحيوان لا يجوز بيع بعضه ببعض نسيئة ، وإن اختلفت أجناسه ، لا يجوز بيع عبد ببعير ، ولا ببقرة ولا بشاة ، نسيئة .

                                                        ولو كان النهي من النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة ، إنما كان لاتفاق النوعين ، لجاز بيع العبد بالبقرة نسيئة ، لأنها من غير نوعه ، كما جاز بيع الثوب الكتان ، بالثوب القطن الموصوف ، نسيئة .

                                                        فلما بطل ذلك في نوعه ، وفي غير نوعه ، ثبت أن النهي في ذلك إنما كان لعدم وجود مثله ، ولأنه غير موقوف عليه .

                                                        وإذا كان إنما بطل بيع بعضه ببعض نسيئة ، لأنه غير موقوف عليه ، بطل قرضه أيضا لأنه غير موقوف عليه .

                                                        فهذا هو النظر في هذا الباب .

                                                        ومما يدل على ذلك أيضا ، ما قد أجمعوا عليه في استقراض الإماء ، أنه لا يجوز رهن حيوان .

                                                        فاستقراض سائر الحيوان في النظر أيضا ، كذلك .

                                                        فإن قال قائل : فإنا رأينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكم في الجنين بغرة عبد ، أو أمة ، وحكم في الدية بمائة من الإبل ، وفي أروش الأعضاء بما قد حكم به ، مما قد جعله في الإبل ، وكان ذلك حيوانا كله يجب في الذمة ، فلم لا كان كل الحيوان أيضا كذلك ؟ .

                                                        قيل له : قد حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدية والجنين بما ذكرت من الحيوان ، ومنع من بيع الحيوان بالحيوان بعضه ببعض نسيئة ، على ما قد ذكرنا وشرحنا في هذا الباب .

                                                        فثبت النهي في وجوب الحيوان في الذمة بأموال ، وأبيح وجوب الحيوان في الذمة بغير أموال .

                                                        فهذان أصلان مختلفان نصححهما ، ونرد إليهما سائر الفروع .

                                                        فنجعل ما كان بدلا من مال ، حكمه حكم القرض الذي وصفنا ، وما كان بدلا من غير مال ، فحكمه حكم الديات .

                                                        والغرة التي ذكرنا من ذلك ، التزويج على أمة وسط ، أو على عبد وسط ، والخلع على أمة وسط ، أو على عبد وسط .

                                                        والدليل على صحة ما وصفنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جعل في جنين الحرة غرة عبدا ، أو أمة .

                                                        وأجمع المسلمون أن ذلك لا يجب في جنين الأمة ، وأن الواجب فيه دراهم أو دنانير ، على ما اختلفوا .

                                                        فقال بعضهم : عشر قيمة الجنين ، إن كان أنثى ، ونصف عشر قيمته ، إن كان ذكرا .

                                                        [ ص: 63 ] وممن قال ذلك ، أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد - رحمة الله عليهم أجمعين - .

                                                        وقال آخرون : نصف عشر قيمة أم الجنين ، وأجمعوا في جنين البهائم أن فيه ما نقص أم الجنين .

                                                        وكانت الديات الواجبة من الإبل ، على ما أوجبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجب في أنفس الأحرار ، ولا يجب في أنفس العبيد .

                                                        فكان ما حكم فيه بالحيوان المجعول في الذمم ، هو ما ليس ببدل من مال ، ومنع من ذلك في الأبدال من الأموال .

                                                        فثبت بذلك أن القرض الذي هو بدل من مال ، لا يجب فيه حيوان في الذمم ، وهذا قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد - رحمة الله عليهم أجمعين - وقد روي ذلك عن نفر من المتقدمين .

                                                        التالي السابق


                                                        الخدمات العلمية