السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مشكلتي هي أني خائفة كل الوقت، قلقة ومتوترة، أشعر أني متعبة جدا وغير مرتاحة نفسيا، وأود أن تكون علاقتي بالله قوية، ولكن لا أعرف السبيل لذلك، أقوم بالعبادات كاملة، وأشعر دائما أني متعبة روحيا، وأن كل شيء زائل، لا أفرح وقت الفرح؛ لأني أخاف مما قد يعقب الفرح، وأخاف من فقد الأحباب، وضعف حيلتي حيال ذلك.
وأشعر أنه تنقصني الإرادة والشجاعة، ولا أستطيع نسيان الماضي؛ حيث أشعر أني كنت جدا مقصرة، وأشعر بتأنيب الضمير والخوف الشديد من ألا تقبل توبتي، وأفكر في يوم القيامة فأرتعب، والتفكير في العقاب الإلهي، وكوني كنت من المقصرين؛ هذا الشعور يمزقني، والحياة أصبحت بالنسبة لي مجرد أيام! تارة أريدها أن تنقضي بسرعة لأني مللتها، وتارة أريدها أن تطول لأتدارك نفسي؛ لعلي أرتاح قبل مغادرتي هذا العالم، وتسيطر علي أفكار كثيرة، والغالب هو الخوف والوحدة وضعف الحيلة، فبماذا تنصحونني؟
وجزاكم الله كل خير.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ Hend حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فنسأل الله أن يفرج الكرب، وأن ينفس ما تعسر على البشر تنفيسه، وأن ييسر بقدرته ما كان عسيرا على خلقه، وأن يلهمك طريق الصواب، وأن يرشدك إلى الحق، وأن يأخذ بناصيتك إليه.
وأما بخصوص ما تفضلت به، فإننا نحب أن نجيبك من خلال ما يلي:
أولا: سؤالك هذا يدل على قلب يقظ، وضمير حي، وحب لله مصاحب للخوف، وهذه الصفات -التي نرجو أن تكون فيك وأكثر-، دليل خير هو فيك، نسأل الله أن تكوني كذلك وزيادة.
ثانيا: لن تستطيعي التجاوب مع معطيات الإرشاد إذا كنت هشة في العلاقة بالله، وكوني على يقين بأن الله يحبك، وأن الله يريد لك الخير، وأحسني ظنك في الله، واعلمي أن الشيطان يريد أن يحزنك بذكر البلاء، أو عدم قبول توبة الله عليك، وهذه خطوات الشيطان، فلا تلتفتي إليها، وأقرئي ما سنكتبه لك الآن بعناية.
ثالثا: لكي يشتد عودك ويقوى، وتكوني قادرة بحق على مواجهة التحديات؛ لا بد من عدة أمور، وهي:
1- الإيمان الكامل بأن الأمور تسير بقدر الله، وأن الله كتب على ابن آدم كل شيء، وقضاء الله لا يأتي إلا بخير، ويكفيك أن تستمعي إلى رسول الله (ﷺ) وهو يقول: (عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكانت خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكانت خيرا له).
2- أن تعلمي أن كل مصاب حين يقع لا يأتي إلا ومعه الصبر عليه، ولا يأتي إلا والأجر رفيقه، إما رفعة للعبد بين يدي الله، أو دفعا لمصاب أشد، أو يكفر الله به من الذنوب ما الله به عليم، وقد قال (ﷺ): (ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن، ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها؛ إلا كفر الله بها من خطاياه) وقد قالوا: البلاء دليل النعم؛ لأن الله إذا أحب عبدا ابتلاه.
ولذلك نجد النبي (ﷺ) يقول كما في حديث مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: قلت يا رسول الله: أي الناس أشد بلاء؟ قال: (الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه... الحديث، وفيه: (حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة) وفي لفظ آخر قال: (الأنبياء) قال: ثم من؟ قال: (العلماء) قال: ثم من؟ قال: (الصالحون).
وعن فاطمة بنت اليمان أخت حذيفة قالت: أتيت النبي (ﷺ) في نساء نعوده، فإذا بسقاء يقطر عليه من شدة الحمى، فقال: (إن من أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) والبلاء مهما كان صغيرا صاحبه مأجور على ذلك، فعن عبد الله بن عمر قال: دخلت على رسول الله (ﷺ) وهو يوعك، فقلت: يا رسول الله، إنك لتوعك وعكا شديدا، قال: أجل، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم. قلت: ذلك أن لك أجرين، قال: أجل، ذلك كذلك، ما من مسلم يصيبه أذى؛ شوكة فما فوقها إلا كفر الله بها سيئاته كما تحط الشجرة ورقها ...).
3- أن تعلمي أن كل مصيبة وقعت رفعت مصائب أكبر، وقد قالوا قديما: "بعض الشر أهون من بعض" ومن نظر بعينه إلى مصائب الناس هان عليه ما هو فيه، وقد روي أن عمر -رضي الله عنه- قال: "ما من مصيبة تصيبني إلا رأيت خلالها ثلاث فوائد قد أنعم الله بها علي:
- الأولى: أنها لم تكن في ديني، فربما فقد بها الإنسان دينه ودنياه.
- الثانية: أنها لم تكن أكبر من ذلك، فهذا دافع.
- الثالثة: أن الله يكتب لي الأجر عليها.
4- تذكري دائما أن البلاء لا يخلو منه أحد، ولن تجدي في الحياة منعما عليه في كل شيء، كما لن تجدي مقترا عليه في كل شيء، فالله حكم عدل، قد يبتلي هذا بالفقر، وتكون صحته جيدة، أو أولاده على خير، أو يرزقه زوجة وفية، والمهم أن كل بلاء يقابله نعم، والعاقل من يحمد الله على ما أنعم به عليه، وأن يصبر على ما ابتلاه الله به، خاصة وأن العاقل يعلم أن من رضي فله الرضى، وكان رضاه معينا على التعافي، وأن من سخط فعليه السخط، وسيكون السخط جالبا لمشاكل أعقد، وفي هذه الحالة تضخم مشاكله، ويضيع أجره، ولا يكون إلا ما قدر الله له.
5- أكثري من قراءة سير الصحابة والتابعين وأهل البلاء، فإن هذا مما يخفف عنه، ولنضرب لك مثالا على صبر هؤلاء الأعلام: هذا عروة بن الزبير أحد فقهاء التابعين، قد روي أن رجله وقعت فيها الأكلة، فقرر الأطباء قطعها؛ حتى لا تسري إلى ساقه كلها، ثم إلى فخذه، وربما ترقت إلى الجسد فأكلته، فطابت نفسه بنشرها. فعرضوا عليه أن يشرب شيئا يغيب عقله؛ حتى لا يحس بالألم، ويتمكنوا من قطعها، فقال: "ما ظننت أن أحدا يؤمن بالله يشرب شيئا يغيب عقله حتى لا يعرف ربه عز وجل، ولكن هلموا فاقطعوها، فقطعوها من ركبته وهو صامت لا يتكلم، ولا يعرف أنه أن واشتكى)! وشاء الله أن يبتلى الرجل على قدر إيمانه، ففي هذه الليلة التي قطعت فيها رجله سقط ابن له -كان أحب أولاده إليه- من سطح فمات، فدخلوا عليه فعزوه فيه، فقال: "اللهم لك الحمد، كانوا سبعة فأخذت واحدا وأبقيت ستة، وكان لي أطراف أربعة فأخذت واحدا وأبقيت ثلاثة، فإن كنت أخذت فلقد أعطيت، ولئن كنت قد ابتليت لقد عافيت!".
فانظري - أختي الفاضلة - إلى طيب تلك النفس، وكيف أنها استطاعت أن تتغلب على المصائب بهذه النفس الرضية، وكيف استخلصت من البلاء النعم، فشكر ربه على ما أنعم به عليه.
6- الله أكرم وأجل من أن يرد عبدا دعاه، فلا تقلقي، ولا تهتمي بالغد، وتذكري أن من يسر لك أسباب النجاة فيما مضى قادر أن ييسر لك ما في غدك:
سهرت أعين ونامت عيون … في شؤون تكون أو لا تكون
فدع الهم ما استطعت فحمـ … ـلانك الهموم جنون
إن ربا كفاك ما كان بالأمـ … ـس سيكفيك في غد ما يكون
رابعا: اعلمي أن باب التوبة دائما مفتوح، وأن المعصية مهما عظمت لها رب رحيم يغفرها للعبد؛ إذا ما رأى الله منه إقبالا وندما، فأنت عبد وهو رب، وطبيعة العبد الخطأ والعودة إلى الله، مع الندم والعزم على عدم العودة، وقد وعد الرب الرحيم بقبول توبة التائبين، ومغفرة ذنوبهم متى ما حسنت توبتهم واستقام سلوكهم.
فالتوبة -كما قال النبي (ﷺ): (الندم)، ومعناها الرجوع عما يكرهه الله من العبد ظاهرا وباطنا، وهو الهداية الواقية من اليأس والقنوط، وهي أول المنازل وأوسطها وآخرها، كما قال ابن القيم، وهي بداية العهد وخاتمته، وهي ترك الذنب مخافة الله عز وجل.
والتوبة استجابة لأمر الله وطاعة له سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا} [التحريم: 8]، وهي سبب للفلاح في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون} [النور: 31].
والتوبة جالبة لمحبة الله، لقوله سبحانه: {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} [البقرة: 222]، وهي سبب لدخول الجنة والنجاة من النار، لقوله تعالى: {إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا} [مريم: 60]، وهي من أسباب تكفير سيئاتك وتبديلها إلى حسنات، قال سبحانه: {إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما} [الفرقان: 70].
والتوبة جالبة للأرزاق ولبركات السماء، وزيادة القوة والإمداد بالأموال والبنين، قال تعالى: {ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين} [هود: 52]، وقال سبحانه: {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا * ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا} [نوح: 10-12].
خامسا: تأكدي أن الله يقبل التوبة من عباده، بل يفرح ربنا لتوبة عبده، فعن أبي حمزة أنس بن مالك الأنصاري - خادم رسول الله (ﷺ) رضي الله عنه- قال: قال رسول الله (ﷺ): الله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة. [متفق عليه]، وفي رواية لمسلم: لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي، وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح.
وهذا يثبت لك سعة رحمة الله بنا، فأملي في الله خيرا، واعلمي أن الله كريم غفور رحيم، وهو القائل جل شأنه: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم} [الزمر: 53]، والتعبير بقوله جل شانه: {لا تقنطوا من رحمة الله} يدل على سعة رحمة الله، وعدم يأس المؤمن من رحمة الله جل وعز.
وأخيرا: ننصحك بمصاحبة الصالحين، والاحتماء بعد الله بهم، ونسأل الله أن يبارك فيك، وأن يحفظك، وأن يقدر لك الخير حيث كان، والله المستعان.