السؤال
السلام عليكم.
عندي مشكلة كبيرة قد تكون صحية أو إيمانية أو كليهما، لا أعرف، فقد توجهت إلى الموقع راجيا من الله العلاج أو شرح حالتي.
أنا شخص منطقي في الغالب، أحكم عقلي بطريقة كبيرة، إن هذا الشيء صحيح وليس به علة، ولست غليظ القلب، أكثر شيء يسعدني هو مساعدة المحتاج أو الضعيف، وأعمل على ذلك دائما، ولكنني في نفس الوقت لا أجزع ولا أبكي عند حدوث مكروه لأحد، أحزن وأتأثر، ولكن ليس بالقدر الكافي أو الطبيعي مثل الآخرين، قد أكون كتوما في نفسي، ولكني أشعر بالعلة، ففي الآونة الأخيرة ابتعدت نوعا ما عن الصلاة، وقل إيماني، ولم أعد أشعر بالموت أو أخاف منه كما السابق.
توفي أحد أصدقائي منذ يومين وهو نائم، هذا شيء قد يجعلني أفزع للصلاة، ولكن لم يتغير شيء، حتى عند حضور الجنازة والدفن لم أبك، ولم أشعر بهول الموقف، ولم يحدث أي تغيير عند رجوعي من الجنازة.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ محمد حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
أسأل الله لك العافية والشفاء والتوفيق والسداد.
أخي: التقلبات في محتوى إيمان الناس قد تحدث في حالات متفرقة ومتفاوتة، ومبدأ أن كل شيء يزيد وينقص هذا مبدأ معروف، فالإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، لكن أن يبتعد الإنسان ابتعادا غير عادي عن الصلاة فهذا دليل على خلل، خلل في الإيمان، وخلل في العبادة، فالصلاة هي من أعظم العبادات في الإسلام، وهي عماد الدين، وهي أول من يسأل عنه المسلم يوم القيامة، ومن كان مضيعا لها فهو لما سواها أضيع، ومن تركها حشر مع الجبابرة – مع فرعون وهامان وأبي بن خلف وغيرهم -.
والإنسان حين يفقد معنى الأشياء لا يؤديها، وقيمة الأشياء لم تتغير، الصلاة هي الصلاة كما هي، إذا مفهومك هو الذي تغير، وهذا أمر غير طبيعي. يجب أن تحاسب نفسك وتراجعها، وأنت ذكرت أنك شخص -بفضل الله تعالى- راجح العقل، فلا تترك ثغرات للشيطان بهذه الكيفية ليدخل منها، ألا يكون الإنسان عابئا بمشاعره، أو مشاعره مشاعر متبلدة، هذا أيضا أمر غير طبيعي.
أنا أنصحك أن تراجع نفسك، أن تذهب إلى طبيب نفسي ليقوم بتقييمك، ربما يكون هنالك تغير ما طرأ على شخصيتك، أو تغير ما على طريقة تفكيرك، أو تغير ما على مشاعرك، هذه الأشياء قد تحصل للإنسان أيضا وتكون ذات طابع مرضي.
فأنا أدعوك أن تذهب لطبيب ليقيم هذه الحالة، هل هو نوع من – لا أقول – الذهان، إنما تغير كامن في المفاهيم، من حيث الأفكار ومكوناتها، والمشاعر وطريقة التعبير عنها.
قطعا هنالك كثير من الذين يبالغون في طريقة تعبيرهم عن الأحزان، لا نعتبر هؤلاء مقاسا أو قياسا سليما، لكن ألا يعتريك شيء من الحزن والكدر وتدعو بالرحمة والمغفرة لهذا الصديق، وترى في الجنازة عظة كبيرة لك، هذا موقف ليس بالسهل، الموت له هيبة ولا شك في ذلك.
فاذهب إلى طبيب نفسي، دعه يراجعك ويراجع مكوناتك النفسية وأبعاد شخصيتك، وفي ذات الوقت أنت يجب أن تتفكر وتتأمل وتتدبر، من خلال ذلك -إن شاء الله تعالى- ترجع لما هو طبيعي، خاصة فيما يتعلق بالصلاة وعظمة الصلاة وأهمية الصلاة، وكيف أنها كانت قرة عين النبي -صلى الله عليه وسلم-، لدرجة أنه إذا حز به أمر فزع إلى الصلاة، وكان دائما يقول لبلال رضي الله عنه: (أرحنا بها يا بلال)، وأنها كانت وصيته عند موته -صلى الله عليه وسلم-.
وأنا أنصحك أن تذهب لصلاة الجماعة، حتى وإن لم تكن طمأنينتك وخشوعك على المستوى الذي تريده، لكن مجرد الذهاب للصلاة هذا سوف يدخلك -إن شاء الله تعالى- في المسار الصحيح، لأن الشيطان مع الواحد، وهو من الجماعة أبعد، فلا تتخلف عن صلاة الجماعة، يجب ألا تفوتك تكبيرة الإحرام، هذه هي النقطة الأولى التي تبدأ منها.
وكثير من الأشياء تحسن من مشاعر الناس: الإنفاق والصدقة، المسح على رأس اليتيم، بر الوالدين، الإكثار من الاستغفار، الصلاة على الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وأنت منهجيتك ذكرت أنها منهجية ممتازة، تسعى دائما لمساعدة الضعفاء.
فادخل مع نفسك في حوار فكري ومحاسبة حول هذا الموضوع، وما دمت مستبصرا وتفرق بين الحق والباطل والخير والشر، وأنت رجل مرتبط بالواقع، فإن شاء الله تعالى سوف ترجع إلى ما كنت عليه من إيمان وتقوى ومشاعر سليمة.
سوف يفيدك أحد الأخوة المشايخ حول هذا الموضوع أيضا.
---------------------------------------
انتهت إجابة: د. محمد عبدالعليم -استشاري أول الطب النفسي وطب الإدمان-،
وتليها إجابة: د. عقيل المقطري - مستشار الشؤون الأسرية-.
----------------------------------------------
مرحبا بك -أخي الكريم- وردا على استشارتك أقول:
- تحكيم العقل والتأني في الأمور وعدم التعجل في اتخاذ القرارات شيء طيب؛ لأن التفكير العاطفي له آثار سلبية كثيرة، لكن هنالك أمور يجب ألا يعمل فيها العقل خصوصا التي لا يصل العقل إلى كنهها ومعرفتها، وهي أمور الغيب وأوامر الشرع، فهنا يجب على العقل أن يكون منقادا، لأن علم العقل محدود جدا ومن أجل ذلك أرسل الله الرسل وأنزل الكتب.
- قد يمر الإنسان في مرحلة يضعف فيها إيمانه وينشغل ببعض الأعمال فتتغير سلوكياته ويقل خشوعه ويقسو قلبه، فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي عثمان النهدي عن حنظلة الأسيدي قال: وكان من كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت نافق حنظلة، قال: سبحان الله ما تقول؟ قال: قلت نكون عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرا، قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: وما ذاك؟ قلت: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات) فإذا كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يشكون من تغير الأحوال فكيف بنا.
- يلاحظ من هذا الحديث أن تقوية الإيمان وقراءة القرآن والأحاديث الصحيحة المتعلقة بالجنة والنار مما يرقق القلب ويكسب الخشوع، فعليك أن تجتهد في تقوية إيمانك، ولا يمكن تقوية الإيمان إلا من خلال الأعمال الصالحة وخاصة نوافل الصلاة والصوم وتلاوة القرآن وما تقوم به من إعانة المحتاجين، وعليك أن تكثر من زيارة المرضى ومسح رأس اليتيم، فهذه كلها تورث قوة الإيمان وترقق القلب.
- أكثر من ذكر الموت وقم بزيارة القبور بين الحين والآخر، فإن ذلك مما يذكر بالآخرة ويورث الخوف من الله تعالى يقول عليه الصلاة والسلام: (أكثروا من ذكر هادم اللذات الموت)، ويقول: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة).
- مشكلتك في نظري إيمانية، ولذلك إذا تقوى إيمانك فستجد لذة للعبادات وسيخشع قلبك وتذرف عينك دمع الخوف من الله، وسيرق قلبك للمناظر المحزنة.
- جاهد نفسك في عمل الطاعات وما يقربك من الله تعالى، فإن من جاهد نفسه هداه الله إلى الصراط المستقيم يقول تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ۚوإن الله لمع المحسنين).
- استمر في العمل وإياك أن يضلك الشيطان الرجيم فتترك العمل بهذه الحجج الواهية.
- جميعنا نمر بمثل هذه المرحلة التي تعاني منها ولست وحدك، فالإنسان لا يبقى على حال واحدة، يقول عليه الصلاة والسلام: (إن لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد أفلح، ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك).
- الابتعاد عن الصلاة سيسبب لك قسوة في القلب وسيجرك إلى مهالك أخرى، ولذلك فالصلاة هي صمام أمان للمؤمن يقول تعالى: (وأقم الصلاة ۖإن الصلاة تنهىٰ عن الفحشاء والمنكر).
- كثرة الذنوب والمعاصي لها دور كبير في قسوة القلب وخاصة ذنوب النظر وتقليبها فيما حرم الله، ولذلك كان لغض البصر فوائد كثيرة منها:
ـ أنه يمنع من وصول أثر السهم المسموم الذي لعل فيه هلاك القلب.
ـ أنه يورث القلب أنسا بالله، وإطلاق البصر يفرق القلب ويشتته ويبعده عن الله.
ـ يعوض الله عز وجل من غض بصره لله من جنس فعله بما هو خير، فيطلق نور بصيرته ويفتح عليه ففي الحديث: (إنك لن تدع شيئا لله عز وجل، إلا أبدلك الله به ما هو خير لك منه) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والله تعالى يجزي العبد على عمله بما هو من جنس عمله، فغض بصره عما حرم يعوضه الله عليه من جنسه بما هو خير منه، فيطلق نور بصيرته، ويفتح عليه باب العمل والمعرفة والكشوف، ونحو ذلك مما ينال ببصيرة القلب".
- صاحب الأخيار واترك رفقاء السوء، فإن الصالحين يدلونك على الخير ويعينونك عليه، ولا تبتعد عن الرفقة الصالحة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية.
- التغير لن يكون إلا بطريقة تدريجية ومع الأيام سيتقوى إيمانك، وستجد حلاوة الإيمان ولذة العبادة، وسيسري الخشوع إلى قلبك -بإذن الله تعالى-.
نسعد بتواصلك، ونسأل الله لك التوفيق.