السؤال
أنا شخص ملتزم، وأخاف الله، ولا أقترب من المحرمات، وتبت إلى الله، وأحاول أن أدفع نفسي عن المحرمات بكل شيء، وأصلي وأدعو بصدق أن يعينني الله، ولكن صرت أحس بعد صدمات متكررة وفشل متكرر، وخسارات المال والأهل، والغربة، وكل شيء فشل، بأنني أفقد الثقة بالله، وبأني أكره التفكير بذلك، ولكن هذه الحقيقة.
صرت أخاف أن يتحول التفكير عندي للكفر أو الإلحاد -والعياذ بالله- لأني كلما تأملت خيرا وفرحت صدمت وخسرت كل شيء، وحقا لم أعد أحتمل، وممكن في أي لحظة أنتحر بسبب الضغط الهائل.
أقول: ما دام أن الله رحيم، وعلى كل شيء قدير، ويقول للشيء كن فيكون، لماذا لا يرحمني؟ لماذا لا ييسر أمري؟ لماذا لا يستجب لي ويخفف عني؟ أهو راض بذلك العذاب الذي أعيشه، وهو الذي أرحم بي من أمي وأبي؟ أيرضى الله على عبد جاءه تائبا مكسورا أن يراه يتعذب ليل نهار، ويتجه نحو الهلاك، ولا يساعده؟ كيف لرب رحيم أن يفعل ذلك؟ إن الله وحده يعلم كم أعاني، أريد فقط أن أعمل وأكفي نفسي وعائلتي.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ رأفت حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
أهلا بك -أخي الكريم- في موقعك إسلام ويب، وإنا نسأل الله الكريم أن يبارك فيك وأن يحفظك، وأن يقدر لك الخير حيث كان، وأن يصرف عنك شر كل ذي شر، إنه جواد كريم.
أخي الكريم: أنت إنسان طيب القلب ولك الحق في السؤال، بل نقول لك: إن السؤال في حد ذاته دليل على صلاح نفسك وتدينك، ومن الطبيعي عند غياب المعلومة أن يحدث معك مثل هذا التساؤل.
ثانيا: قبل أن نجيبك نحب أن تشاركنا في الجواب على هذا السؤال الافتراضي: أب أخذ ولده وهو في عمر السادسة ليكتشف أنه مريض بالغرغرينة في قدمه، وأنه لابد من بترها قبل أن يستفحل الأمر ويفقد ولده! قرر الوالد فورا الموافقة على بتر قدم ولده، رأى ولده بعينه، والده يمسك قدمه ويسلمها الطبيب ليقطعها..كيف نفسر للطفل أن هذا الوالد يحبه، وأنه رحيم به، وأنه أكثر الناس شفقة عليه؟!
كيف نفسر له أن الرحمة لا تتعارض مع بتر الساق؟ هل سيعي الطفل في هذا السن معنى الغرغرينة وأبعادها الخطيرة؟
هل سيعي الطفل أن الوالد الذي رأى دموع ولده وتوسلاته أن لا يتركه بين يدي الأطباء ليقطعوا قدمه، يحبه ويخاف عليه؟!
لعلك توافقنا الآن -يا أخي- في أن الفهم سيكون صعبا على الولد في هذا السن، لكن عندما يكبر سيفهم جيدا موقف والده، وأنه لو كان مكان والده لاتخذ نفس القرار.
نراك الآن بدأت تفهمنا، البلاء لا يعني غياب الرحمة، بل قد يكون البلاء عين الرحمة وأنت لا تدري، وقد تكون ما أنت فيه اليوم كفارة لأمر جلل كان سيحدث لك نجاك الله منه بهذا.
أنا وأنت ونحن في هذه الدنيا مثل هذا الصبي يا أخي، والابتلاء الذي نمر به جميعا سنعلم خيره في الآخرة، وبعضا من ذلك في الدنيا.
ثالثا: أخي الكريم: أنت في ابتلاء، نعم قد تكون كذلك، ولكن اعلم أنك لست وحدك في البلاء، بل اعلم أن الدنيا كلها دار كدر وابتلاء، الله خلقنا وخلقها لأجل ذلك، قال تعالى: (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا) قال الله: (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات ۗ وبشر الصابرين (155) الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون (156) أولٰئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة ۖ وأولٰئك هم المهتدون (157))، سورة البقرة.
قد تسأل لماذا يبتلينا الله تعالى أصلا؟ ونحن نجيبك -يا أخي- بطريقة مبسطة، أنت مدير مدرسة وعندك طلابها، أعطيتهم الكتب ومنحتهم الوقت، وجلبت لهم المعلمين، وأردت في خاتمة العام أن تعلن النتائج ليعلم المجد من الكسول، فأجريت لهم (الابتلاء) الامتحان نقصد، هل تلام على ذلك؟!
هل سيقول لك ولدك الذي أجلسته وحده وأمامه أوراقه، ومنعت عنه الغش أو التزوير، لماذا فعلت بي ذلك وأنا ولدك؟ لو لم تفعل ذلك لكنت ظالما يا أخي.
قد ادعينا جميعا الصلاح، وأردنا جيمعنا الدرجات العلا من الجنة، هذه الدعوى أليس لها امتحان؟ هذا ما نعيشه في الدنيا القصيرة نبتلى فيها ليتبين المصلح من الدعي.
رابعا: لماذا أنا تحديدا من ابتلي؟ هذا السؤال على لسان كل مبتلى يا أخي، ولو علم كل واحد فينا حجم الابتلاء الذي يقع فيه غيره لتبين لنا أن الابتلاء مقسم بالعدل على الجميع، ولكن للأسف كل واحد ينظر لنفسه فقط، ولو اطلعت بنفسك على مستشفى السرطان ورأيت عدد المرضى وكثرتهم، لو نظرت إليهم ورأيت كيف ينتظرون جرعات الكيماوي، وماذا تفعل فيهم؛ لعلمت كم من نعم عندنا لا نراها.
خامسا: هل ابتلاني الله لأنه لا يحبني؟ هذا سؤال قد يرد على ذهنك وأنت الشاب الصالح -إن شاء الله-، ونقول لك: بالعكس -يا أخي- البلاء يدل على المحبة، وأشد الناس بلاء كانوا هم الأنبياء ثم من يشبههم، يبتلى المرء على قدر دينه.
سادسا: الانتحار لا ينهي الألم ولكن ينهي الحياة التي أردت الحفاظ عليها من الألم، ثم يعقبه غضب الجبار جل وعز، ثم الخاتمة جهنم، سلمك الله وسلم منها كل مسلم، فهل بهذا تكون قد أنهيت الألم، أم أنهيت ألما له مدة محددة بعذاب وألم بلا نهاية؟! قال صلى الله عليه وسلم: (من قتل نفسه بحديدة جاء يوم القيامة وحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا أبدا، ومن قتل نفسه بسم فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا).
سابعا: -أخي الكريم-: اعلم أنه لا يوجد في الكون أحد مبتلى من كل الوجوه، هذا محال، حتما ستجد عندك بعض المزايا يتمناها غيرك، ونحن ندعوك إلى أمرين:
1- قراءة باب القضاء والقدر من كتب العقيدة.
2-جدولة الابتلاءات والمشاكل كلها، وما كان قابلا للعلاج فابدأ به، وما لم يكن قابلا فاستعن بالله عليه.
3-زيارة المشافي والمرور بين أهلها.
4- البحث عن صحبة صالحة على أن يكون من بينها من يتعامل بإيجابية مع الأحداث.
5-الخلوة مع الله تعالى، والدعاء له، واعلم أن دعاءك كله مستجاب، ولكن وفق مسارات محددة، قال صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم، ولا قطيعة رحم؛ إلا أعطاه بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها. قالوا: إذا نكثر . قال: الله أكثر).
هذا هو الطريق، أخي الكريم، وإنا نسأل الله الكريم أن يبارك فيك وأن يصرف عنك ما حل بك، ونحن إخوانك راسلنا في أي وقت، والله الموفق.