الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فأصل الإشكال الذي وقعت فيه أنك لم تقدر لمقام النبوة قدره، فإنه مقام عصمة وسمو عن كل ما يعاب، وقد أوجب الله تعالى تحكيمه صلى الله عليه وسلم في كل شيء والانقياد والتسليم لما حكم به، قال تعالى: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما { النساء: 65}.
قال السعدي: يخبر تعالى خبرا في ضمنه الأمر والحث على طاعة الرسول والانقياد له. وأن الغاية من إرسال الرسل أن يكونوا مطاعين ينقاد لهم المرسل إليهم في جميع ما أمروا به ونهوا عنه، وأن يكونوا معظمين تعظيم المطيع للمطاع. وفي هذا إثبات عصمة الرسل فيما يبلغونه عن الله، وفيما يأمرون به وينهون عنه؛ لأن الله أمر بطاعتهم مطلقا، فلولا أنهم معصومون لا يشرعون ما هو خطأ، لما أمر بذلك مطلقا... ثم أقسم تعالى بنفسه الكريمة أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا رسوله فيما شجر بينهم.. ثم لا يكفي هذا التحكيم حتى ينتفي الحرج من قلوبهم والضيق، وكونهم يحكمونه على وجه الإغماض، ثم لا يكفي ذلك حتى يسلموا لحكمه تسليما بانشراح صدر، وطمأنينة نفس، وانقياد بالظاهر والباطن. فالتحكيم في مقام الإسلام، وانتفاء الحرج في مقام الإيمان، والتسليم في مقام الإحسان. فمن استكمل هذه المراتب وكملها، فقد استكمل مراتب الدين كلها. فمن ترك هذا التحكيم المذكور غير ملتزم له فهو كافر، ومن تركه مع التزامه فله حكم أمثاله من العاصين اهـ.
وأما بخصوص مسألة العباس، فقد نصت الرواية التي ذكرها السائل على أن النبي صلى الله عليه وسلم علل أمره بذلك بأنه أخرج مستكرها. وأن أبا حذيفة لما قال: أنقتل آباءنا وأخواتنا وعشيرتنا ونترك العباس والله لئن لقيته لألحمنه السيف. كان بعد ذلك يقول: ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ ولا أزال منها خائفا إلا أن تكفرها عني الشهادة فقتل يوم اليمامة شهيدا (السيرة النبوية 3 / 177، المعرفة والتاريخ 1 / 274، الطبقات الكبرى 4 / 11 وغيرها).
ثم ينبغي أن لا ينسى للعباس رضي الله عنه مؤازرته للنبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة، حتى إنه حضر بيعة العقبة مع الأنصار قبل أن يسلم.
وقد كان من هديه صلى الله عليه وسلم مكافأة المعروف، حتى إنه صلى الله عليه وسلم قال في أسارى بدر ـ وهم سبعون من قريش ـ: لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له. رواه البخاري. قال ابن حجر: وقوله " لتركتهم له " أي بغير فداء، وبين ابن شاهين من وجه آخر السبب في ذلك، وأن المراد باليد المذكورة ما وقع منه حين رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف ودخل في جوار المطعم بن عدي. اهـ.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم مع ذلك لم يعاف عمه العباس من مسئولية خروجه مع المشركين، فعن ابن عباس قال: كان الذي أسر العباس بن عبد المطلب أبو اليسر بن عمرو، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف أسرته يا أبا اليسر ؟ قال: لقد أعانني عليه رجل ما رأيته بعد ولا قبل، هيئته كذا هيئته كذا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أعانك عليه ملك كريم. وقال للعباس: يا عباس افد نفسك وابن أخيك عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث وحليفك عتبة بن جحدم أحد بني الحارث بن فهر. قال: فأبى وقال: إني كنت مسلما قبل ذلك وإنما استكرهوني. قال: الله أعلم بشأنك، إن يك ما تدعي حقا فالله يجزيك بذلك، وأما ظاهر أمرك فقد كان علينا، فافد نفسك. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ منه عشرين أوقية ذهب فقال: يا رسول الله احسبها لي من فداي. قال: لا، ذاك شيء أعطاناه الله منك. قال: فإنه ليس لي مال. قال: فأين المال الذي وضعته بمكة حيث خرجت عند أم الفضل وليس معكما أحد غيركما، فقلت: إن أصبت في سفري هذا فللفضل كذا ولقثم كذا ولعبد الله كذا. قال: فوالذي بعثك بالحق ما علم بهذا أحد من الناس غيري وغيرها، وإني لأعلم أنك رسول الله. رواه أحمد في مسنده.
فإذا كان قد وقع في نفسك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن منصفا فيما أمر به فبادر إلى التوبة من ذلك فإنه من أكبر الكبائر.
ولا شك في أن ما ذكرته عن نفسك من الخوف من النفاق يعتبر دليلا على أنك لست منافقا، وقد يكون ما حصل لك هو مجرد وسوسة من الشيطان وليس اعتقادا..
وفي خصوص الاعمال التي تكتب للمرء بها البراءة من النفاق فإنه قد ورد في الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من صلى أربعين يوما في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتب له براءتان، براءة من النار وبراءة من النفاق.
وعلى أية حال، فإن على المسلم أن يبقى طيلة حياته حذرا من النفاق ومن سوء الخاتمة مواظبا على ما يرضي الله ومبتعدا عما يسبب سخطه.
والله أعلم.