الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد خلق الله تعالى الإنسان ليمتحنه ويختبره؛ تمييزا بين الخبيث والطيب، والصالح والطالح، كما قال تعالى: وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا {هود:7}، وقال سبحانه: الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا {الملك:2} وقال تعالى: أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون* ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين {العنكبوت:2-3}، وقال عز وجل: ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب {آل عمران:179}.
وهذا الامتحان يكون بالأحكام الشرعية كالأوامر والنواهي، ويكون كذلك بالأحكام القدرية، سواء ما نكره منها كالمصائب والشدائد، أو ما نحب كالأموال والأولاد، كما قال تعالى: ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون {الأنبياء:35}، ولذلك جعل نبي الله سليمان -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- ما أوتيه من ملك وسلطان ونفاذ للأمر، اختبارا من الله فقال: هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر {النمل:40}، قال السعدي في تفسيره: أي ليختبرني بذلك. فلم يغتر عليه السلام بملكه وسلطانه وقدرته كما هو دأب الملوك الجاهلين، بل علم أن ذلك اختبار من ربه فخاف أن لا يقوم بشكر هذه النعمة. اهـ
فلا يقتصر الامتحان على الضراء فقط، بل قد يكون امتحان السراء أشد من الضراء، كما قال عبد الرحمن بن عوف: ابتلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالضراء فصبرنا، ثم ابتلينا بالسراء بعده فلم نصبر. رواه الترمذي وحسنه، وحسنه الألباني. قال ابن الأثير في النهاية: يريد إنا اختبرنا بالفقر والشدة والعذاب فصبرنا عليه، فلما جاءتنا السراء وهي الدنيا والسعه والراحه بطرنا ولم نصبر. اهـ
فالمؤمن ممتحن سواء بالضراء أو السراء، وعليه في كل حال فرض لله تعالى، فحاله يدور بين الشكر والصبر، وفي كل خير، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له. رواه مسلم. فمن كان كذلك فهو مأجور محبوب لله على كل حال، حتى لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر. رواه أحمد والترمذي وحسنه، وابن ماجه، وصححه الألباني.
قال ابن بطال: هذا من تفضل الله على عباده أن جعل للطاعم إذا شكر ربه على ما أنعم به عليه ثواب الصائم الصابر. وقال الطيبي: ربما توهم متوهم أن ثواب الشكر يقصر عن ثواب الصبر فأزيل توهمه، أو وجه الشبه اشتراكهما في حبس النفس فالصابر يحبس نفسه على طاعة المنعم، والشاكر يحبس نفسه على محبته. اهـ من فتح الباري.
وأما مسألة المفاضلة بين العبادة في الرخاء والشدة، فهي فرع لمسألة المفاضلة بين الصبر والشكر، كما أن من فروعها المفاضلة بين الغني الشاكر والفقير الصابر، وقد تناول الإمام ابن القيم هذه المسائل باستفاضة وتفصيل لأدلة كل قول في كتاب عدة الصابرين.. ثم قال: التحقيق أن يقال: أفضلهما أتقاهما لله تعالى، فإن فرض استواؤهما في التقوى استويا في الفضل؛ فإن الله سبحانه لم يفضل بالفقر والغنى كما لم يفضل بالعافية والبلاء، وإنما فضل بالتقوى. اهـ
وأما السؤال عن أهل فلسطين ومكانتهم، فلا شك أنهم على ثغر عظيم من ثغور الإسلام، وأن الصابر المحتسب منهم له ـ إن شاء الله - أجر الرباط في سبيل الله، ومن قتل في سبيل الله منهم جهادا في سبيل الله فحسبه أجر الشهادة، وقد سبق لنا بيان أنهم مرابطون وبيان فضل الرباط، في الفتوى رقم: 70677، والفتوى رقم: 7463، كما سبق أيضا ذكر طرف من فضل الجهاد والشهادة في سبيل الله، في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 32629، 32415، 31791.
ولا يسع المرء إن لم يكن معهم ببدنه، وحيل بينه وبين ذلك، إلا أن يصدق النية، ويعد العدة، ويمدهم ويعينهم بكل ما يستطيع ماديا ومعنويا، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: لا هجرة، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا. متفق عليه. قال النووي: معناه أن تحصيل الخير بسبب الهجرة قد انقطع بفتح مكة، ولكن حصلوه بالجهاد والنية الصالحة، وفي هذا: الحث على نية الخير مطلقا وأنه يثاب على النية. انتهى. وقد سبق لنا بيان أن المرء ينال ثواب المجاهد والشهيد بالنية، في الفتوى رقم: 21144.
كما سبق لنا بيان واجب المسلمين تجاه إخوانه المضطهدين، في الفتوى رقم: 47694.
فمن بذل ما يستطيع، وأدى هذه الواجبات، وصدق في نيته، فمثل هذا إن شاء الله يكون من الصادقين، ويرجى له أن يكون له مثل أجرهم، وأنه إن تيسر له لكان من المبادرين للدفع عنهم وجهاد عدوهم.
وأما قول السائل الكريم (عندما أسمع ابتلاءهم تسد نفسي عن العمل وأحبط)، فهذا من عمل الشيطان الذي يريد أن يحزن الذين آمنوا، وأن يخوف أولياءه، ويكفي المؤمن أن يتدبر الآيات التي نزلت تربي المسلمين بعد غزوة أحد، ومن ذلك قوله تعالى: قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين* هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين* ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين* إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين* وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين* أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين* ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون* وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين* وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين* وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين* وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين* فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين {آل عمران}.
فالعاقل فضلا عن المسلم لا تزيده الشدة إلا صلابة، والمؤمن يثق في موعود الله تعالى بإحدى الحسنيين، وليكن لنا قدوة حسنة في الصحابة الكرام الذين رمتهم العرب عن قوس واحدة يوم الخندق، فكانوا، كما وصف الله: ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما* من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا {الأحزاب:22-23}، ثم لتعلم أخي الكريم أن العاقبة للتقوى، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا، وأن المستقبل لهذا الدين رغم أنف الكافرين، وقد سبق لنا بيان البشائر الحتمية لانتصار الأمة الإسلامية، في الفتوى رقم: 32949.
كما سبق لنا أيضا بيان حكمة الابتلاء وثواب وعاقبة الصابر عليه، وثوابه أن الله يجبر مصيبة العبد لو احتسب، وذلك في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 101007، 72118، 18721.
والله أعلم.