توضيح حول حديث الداجن التي أكلت الصحيفة

0 1124

السؤال

حدثنا أبو سلمة يحيى بن خلف، قال: حدثنا عبد الأعلى، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عمرة، عن عائشة، وعن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت: لقد نزلت آية الرجم، ورضاعة الكبير عشرا، ولقد كان في صحيفة تحت سريري، فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشاغلنا بموته دخل ‌داجن فأكلها.
أريد تخريجا لهذا الحديث، وتوضيحا له، حيث أرسله لي شخص غير مسلم كدليل على أن القرآن ناقص وغير موثق.
وجزاكم الله خيرا.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:

فهذا الحديث رواه الإمام ابن ماجه 1/625، والدارقطني: 4/179، وأبو يعلى في مسنده 8/64، والطبراني في معجمه الأوسط 8/12، وابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث، وأصله في الصحيحين، وأورده ابن حزم في المحلى 11/236، وقال: هذا حديث صحيح.

ولبيان هذا الحديث وتوضيحه نقول: إن التشريع الإسلامي في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- مر بمراحل عدة حتى وفاته -صلى الله عليه وسلم-، وانتقاله إلى الرفيق الأعلى، ومن ذلك وقوع النسخ لبعض الأحكام والآيات، والنسخ عرفه العلماء بأنه: رفع الشارع حكما منه متقدما بحكم منه متأخر.

ولم يقع خلاف بين الأمم حول النسخ، ولا أنكرته ملة من الملل قط، إنما خالف في ذلك اليهود فأنكروا جواز النسخ عقلا، وبناء على ذلك جحدوا النبوات بعد موسى -عليه السلام-، وأثاروا الشبهة، فزعموا أن النسخ محال على الله تعالى، لأنه يدل على ظهور رأي بعد أن لم يكن، وكذا استصواب شيء علم بعد أن لم يعلم، وهذا محال في حق الله تعالى.

والقرآن الكريم رد على هؤلاء وأمثالهم في شأن النسخ ردا صريحا، لا يقبل نوعا من أنواع التأويل السائغ لغة وعقلا، وذلك في قوله تعالى: ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير {البقرة: 106}، فبين سبحانه أن مسألة النسخ ناشئة عن مداواة وعلاج مشاكل الناس، لدفع المفاسد عنهم وجلب المصالح لهم، لذلك قال تعالى: (نأت بخير منها أو مثلها)، ثم عقب فقال: ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير* ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير {البقرة:106-107}، والنسخ ثلاثة أقسام:
الأول: نسخ التلاوة مع بقاء الحكم، ومثاله آية الرجم وهي: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة..)، فهذا مما نسخ لفظه، وبقي حكمه.
الثاني: نسخ الحكم والتلاوة معا: ومثاله قول عائشة -رضي الله عنها-: (كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخ بخمس معلومات يحرمن)، فالجملة الأولى منسوخة في التلاوة والحكم، أما الجملة الثانية فهي منسوخة في التلاوة فقط، وحكمها باق عند الشافعية.

وقولها رضي الله عنها: (ولقد كان………..) أي ذلك القرآن بعد أن نسخ تلاوة (في صحيفة تحت سريري) والداجن: الشاة يعلفها الناس من منازلهم، وقد يقع على غير الشاة من كل ما يألف البيوت من الطير وغيرها.

قال ابن حزم -رحمه الله تعالى-: فصح نسخ لفظها، وبقيت الصحيفة التي كتبت فيها كما قالت عائشة -رضي الله عنها- فأكلها الداجن، ولا حاجة إليها.. إلى أن قال: وبرهان هذا أنهم قد حفظوها، فلو كانت مثبتة في القرآن لما منع أكل الداجن للصحيفة من إثباتها في القرآن من حفظهم وبالله التوفيق. اهـ.

وقال ابن قتيبة: فإن كان ‌العجب ‌من ‌الصحيفة، فإن الصحف في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلى ما كتب به القرآن، لأنهم كانوا يكتبونه في الجريد، والحجارة، والخزف، وأشباه هذا ذلك. اهـ.

وإن كان العجب من وضعه تحت السرير، فإن القوم لم يكونوا ملوكا فتكون لهم الخزائن والأقفال والصناديق، وكانوا إذا أرادوا إحراز شيء أو صونه وضعوه تحت السرير ليأمنوا عليه من الوطء وعبث الصبي والبهيمة، وكيف يحرز من لم يكن في منزله حرز ولا قفل ولا خزانة، إلا بما يمكنه ويبلغه وجده، ومع النبوة التقلل والبذاذة كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويصلح خفه، ويقول: "إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد".

وإن كان العجب من الشاة، فإن الشاة أفضل الأنعام، فما يعجب من أكل الشاة تلك الصحيفة، وهذا الفأر شر حشرات الأرض، يقرض المصاحف ويبول عليها، ولو كانت النار أحرقت الصحيفة أو ذهب بها المنافقون كان العجب منهم أقل.

وقد أجاب أهل العلم عن هذا الحديث بأجوبة أبسط من هذا يرجع فيها إلى أقوالهم لمن أراد المزيد، وصدق الله تعالى إذ يقول: ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم [النساء:83]، فلله الحمد والمنة، فنحن على يقين أنه لا يختلف مسلمان في أن الله تعالى افترض التبليغ على رسول -صلى الله عليه وسلم-، وأنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ كما أمر، قال تعالى: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته [المائدة:67]، وقال تعالى: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [الحجر: 9].

فصح أن الآيات التي ذهبت لو أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بتبليغها لبلغها، ولو بلغها لحفظت، ولو حفظت ما ضرها موته، كما لم يضر موته عليه السلام كل ما بلغ من القرآن، وإن كان عليه السلام لم يبلغ أو بلغه ولكن لم يأمر أن يكتب في القرآن، فهو منسوخ بتبيين من الله تعالى، لا يحل أن يضاف إلى القرآن.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات