السؤال
أخي أفتاني بجواز الغناء, وأنا لا علم لي وأخشى أن يكون غير جائز وسأكتب لكم ما قاله لي، فأرجوكم جزاكم الله خيرا أن تردون على كل نقطة، الغناء مختلف فيه بين الفقهاء ولهم أقوال شتى وتفصيلات لكن اختصار هذه الأقوال في قولين إما مجيزون مطلقا، وإما محرمون مطلقا، والمحرمون مطلقا لهم أدلة استدلو بقوله تعالى: ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا ـ فقالوا لهو نكرة في سياق الشرط وهي مضافة فتعم كل لهو ومن هذا اللهو الغناء فإنهم يرون اللهو أعم يشمل الغناء وغير الغناء وقالوا الدليل على ذلك ما رواه ابن مسعود وما روي أيضا لابن عباس - رضي الله عنهما - والنص يقول إنهما أقسما بالله أن آية لهو الحديث نزلت في الغناء, هل قول الصحابي حجة أم ليس بحجة؟ والصحيح أنه ليس بحجة وإن كانوا كلهم في الجنة فأقوالهم لا يحتج بها وليست بمقام الكتاب والسنة، والدليل أنهم خالفوا بعضهم البعض فلو كان حجة بينهم لأحتجوا بأقوال بعضهم على بعض وما كانوا يستدلون بأقوالهم، بل كانوا إذا اختلفوا في شيء ردوه إلى كتاب الله وسنة نبيه.
والأمر الثاني من يقول بقول ابن عباس بأن المقصود في هذه الآية هو الغناء نقول له إذا كنت تستدل بهذا القول لابن عباس لماذا لا تستدل بقول ابن عباس وجمهور أهل العلم في جواز كشف وجه المرأة وكفيها فإن قال قول ابن عباس ليس بحجة فرد على نفسه وإن قال حجة نقول له تناقضت فأنت تأخذ بقول ابن عباس تارة وتارة تتركه فإن قال أنا لم آخذ بقول ابن عباس في كشف الوجه واليدين فنحن نقول كذلك لم نأخذ بنص لهو الحديث، وشيخ الإسلام ابن تيمية يقول لا إنكار في مسائل الخلاف وفي غير موضع من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية نص على هذه القاعدة أنه لا إنكار في مسائل الخلاف, والدليل الآخر قول النبي صلى الله عليه وسلم ما رواه البخاري معلقا في صحيحه وليس مسندا وجاء بعض العلماء ووصلوا الحديث وعلقه الحافظ ابن حجر في التعليق وهذا عند جمع من أهل الحديث خلافا لابن حزم الذي يرى ضعف هذا الحديث لكن على تقدير صحة هذا الحديث هل ما فيه يدل على تحريم الغناء مصحوبا بالموسيقى، أو بغير الموسيقى إن سلمنا بصحة الحديث سندا فإنه لا يصح لكم متنه، الحديث يقول: يأتي أقوام على أمتي يخبر صلى الله عليه وسلم عن أقوام ولم يقل يا أمتي افعلوا كذا ولا تفعلوا كذا إذا هذا الحديث خبري يخبر بأقوام يأتون فإذن الحديث في مقام الإخبار لا في مقام الإباحة، أو التحريم فالصفات التي ذكرت في الحديث فيها ما هو محرم وما ليس بمحرم الحديث يقول: يأتي أقوام على أمتي يستحلون الحر والحرير والخمرة والمعازف يخسف بهم في مكان من الأرض ـ والحديث في ألفاظ متعددة لكن كلها تدور حول هذا المحور، فلفظ الاستحلال يشعرك لأول وهلة أنهم يستحلون شيئا محرما ولكن ليس بصحيح، فلفظ الاستحلال في اللغة على استحلال الحرام واستحلال الحلال فاستحلال الحرام بأنك تبيح لنفسك محرما، واستحلال الحلال أن النبي صلى الله عليه وسلم في أكثر من حديث يقول إن الله أحل أشياء فأحلوها ـ وفي رويات فاستحلوها ـ وحرم أشياء فحرموها. الحر الأصل فيه التحريم من خارج الحديث والحرير فوجدنا أنه قال أقوام يشمل النساء والرجال فحرير حلال للنساء حرام للرجال فأصبح الحرير في هذا الحديث له حكمان حكم للرجال وحكم للنساء إذن هولاء الأقوام رجال ونساء من صفاتهم أنهم يلبسون الحرير والمعازف فوجدنا أنها في خارج الحديث ليست عبادة فهي من عادات الناس فحكم عادات الناس في الإسلام في قوله تعالى: هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ـ فوجدنا أن الأصل العام في العادات الإباحة إلا ما نص الدليل على تحريمه، والخمر دليله خارج الحديث بالتحريم، وفي الحديث يخبر عن المعازف التي هي خارج الحديث مباحة للنساء علمنا أنه لا يقصد إخبارا عن شيء محرم استحلوه، وإنما يخبرنا عن قوم من صفاتهم، والمبيحون للغناء اختلفوا فمنهم من أباحه مطلقا ومنهم من أباحه إذا كان مع دف وبعضهم أباح الدف للنساء فقط والغناء للرجال، وبعضهم حرم الغناء بالمعازف، أو بغير آلة المعازف إلا للنساء فقط، وأدلتهم كلها واحدة، أولا الأصل في العادات الإباحة.
ثانيا: في الحديث قال صلى الله عليه وسلم: اعلنوا النكاح واضربوا عليه ـ ولم يقل أعلن النكاح، أو واضربن عليه بالدف، إذا بالمخاطب الرجال والنساء، والدليل الثاني جاءت جارية إلى النبي صلى الله عليه وسلم: قال يا رسول الله لقد نذرت إذا ردك الله سالما لأضربن بالدف على رأسك فقال إن كنت نذرت وإلا فلا، يدل على أن النبي ما هو محرم قالت، بل نذرت فضربت عند النبي صلى الله عليه وسله وغنت فرحا بعودته فلو كان محرما لما سمح النبي لها أن تتقرب إلى الله بالدف والغناء فالنبي صلى الله عليه وسلم قال من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه ـ والدليل الثالث حديث الجاريتين وحديث الحبشة في المسجد.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فهذا الكلام المذكور فيه خلط كثير ومجانبة لطريقة أهل العلم في المناقشة والاستدلال، وظاهر جدا عدم رسوخ قدم كاتب هذا الكلام في العلم الشرعي الشريف، وهذه المسألة من المسائل المقتولة بحثا فلسنا بحاجة لتكرار ما كتبناه فيها من قبل في فتاوى كثيرة جدا وما كتبه غيرنا في بيان حكم الشرع في هذه المسألة، ولكننا نحيلك اختصارا على الفصل الذي عقده ابن القيم ـ رحمه الله ـ في إغاثة اللهفان حول هذه المسألة، وكتاب تحريم آلات الطرب للألباني ـ رحمه الله ـ ولكننا ننبه على بعض ما وقع في هذا الكلام من التلبيس والإيهام غير قاصدين للاستقصاء حذر الإطالة والإملال.
أولا: تحريم المعازف متفق عليه بين الأئمة الأربعة وعامة أصحابهم، فهو قول جماهير أهل العلم، وأما الغناء غير المصحوب بالمعازف ففيه خلاف بين العلماء، فالخلط بين المسألتين غلط وهو ما وقع في كلام هذا الكاتب يقول شيخ الإسلام ـ رحمه الله: مذهب الأئمة الأربعة أن آلات اللهو كلها حرام فقد ثبت في صحيح البخاري وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه سيكون من أمته من يستحل الحر والحرير والخمر والمعازف وذكر أنهم يمسخون قردة وخنازير، والمعازف: هي الملاهي كما ذكر ذلك أهل اللغة، جمع معزفة، وهي الآلة التي يعزف بها: أي يصوت بها، ولم يذكر أحد من أتباع الأئمة في آلات اللهو نزاعا، ولكن تكلموا في الغناء المجرد عن آلات اللهو: هل هو حرام؟ أو مكروه؟ أو مباح؟ وذكر أصحاب أحمد لهم في ذلك ثلاثة أقوال. وذكروا عن الشافعي قولين، ولم يذكروا عن أبي حنيفة ومالك في ذلك نزاعا، وذكر زكريا بن يحيى الساجي ـ وهو أحد الأئمة المتقدمين المائلين إلى مذهب الشافعي: أنه لم يخالف في ذلك من الفقهاء المتقدمين إلا إبراهيم بن سعد من أهل البصرة. انتهى بتصرف.
ثانيا: الضرب بالدف جائز، أو مشروع في العرس ونحوه كالختان وقدوم الغائب وهذا لا يعارض الأدلة العامة في تحريم المعازف حتى يزعم أنه دليل على إباحتها، فالاستدلال بالترخيص في الضرب بالدف على إباحة المعازف ضرب لسنة النبي صلى الله عليه وسلم بعضها ببعض والواجب أن يحمل العام على الخاص فيقال بتحريم المعازف إلا ما استثناه الشرع، قال في الروض: ويسن الدف أي الضرب به إذا كان لا حلق به ولا صنوج فيه أي في النكاح للنساء وكذا ختان وقدوم غائب وولادة وإملاك. انتهى.
ونصوص العلماء في هذا كثيرة.
ثالثا: الزعم بأن تحريم المعازف من المسائل المختلف فيها ومن ثم لا تكون من مسائل الإنكار زعم غير صحيح، فإن الخلاف في هذه المسألة ضعيف جدا ومن ثم لم يلتفت إليه كثير من العلماء فحكوا الإجماع في المسألة، فالقول بإباحة المعازف قول شاذ ليس معروفا عن أحد من الأئمة المتبوعين ولا أكابر أصحابهم، وانظر الفتوى رقم: 130531، وما أحيل عليه فيها.
رابعا: الزعم بأن حديث تحريم المعازف معلق غير متصل زعم فاسد كل الفساد فإن هشام بن عمار هو شيخ البخاري، والبخاري أبعد خلق الله عن التدليس كما قال ابن القيم فلو كان أخذه عنه بواسطة لبين ذلك، قال النووي في مقدمة شرح مسلم نقلا عن ابن الصلاح: وهكذا الأمر في تعليقات البخاري بألفاظ جازمة مثبتة على الصفة التي ذكرناها كمثل ما قال فيه قال فلان، أو روى فلان، أو ذكر فلان، أو نحو ذلك ولم يصب أبو محمد بن حزم الظاهري حيث جعل مثل ذلك انقطاعا قادحا في الصحة واستروح إلى ذلك في تقرير مذهبه الفاسد في اباحة الملاهي. انتهى.
وأما ما ذكره من تأويل الحديث على تقديره صحته فمن أفسد الكلام وأبطله، وسماجة هذا التأويل تعلم ببداهة العقل، أفترى الذم والوعيد الشديد بالمسخ قردة وخنازير أتى على استحلالهم ما هو حلال في نفس الأمر؟ وهذا الحديث وإن كان المراد به الإخبار عن شيء يحصل مستقبلا لكنه إخبار بعقوبة عظيمة تنزل بأقوام يستحلون ما هو محرم، معلوم تحريمه، ولا يتصور عاقل يدري ما يقول أن هؤلاء القوم عوقبوا على استحلالهم ما هو حلال لهم وفعلهم ما أذن لهم في فعله، وأين هذا التأويل في كلام شراح الحديث وجهابذة العلماء؟.
خامسا: مما يتعجب منه الزج بمسألة كشف الوجه هنا، والمحاولة الفاسدة لإلزام من قال بتحريم المعازف أن يقول بإباحة كشف الوجه بزعم أن كليهما قول ابن عباس، وهذا من التخليط الذي يدل على قلة بضاعة صاحبه من العلم وعدم درايته بما يقول، فإن قول الصحابي المختلف في حجيته هو الذي لم يظهر له فيه مخالف، وأما ما خولف فيه الصحابي فقوله ليس حجة على غيره، ولذلك قال ابن قدامة في الروضة: قول الصحابي ليس بحجة على صحابي آخر. انتهى.
وليس هذا مقام تحرير هذه المسألة، ولكن هب أن ابن عباس يقول بجواز كشف الوجه فقد خالفه غيره وفسر قوله: إلا ما ظهر منها ـ بخلاف من فسره به كابن مسعود فحينئذ لا يكون قوله حجة، على أن بعض المحققين كشيخ الإسلام رحمه الله قال إن كلام ابن عباس جرى على ما كان عليه الأمر أولا من جواز كشف الوجه وكلام من فسر ما ظهر منها بالثياب محمول على ما بعد النسخ فلا تعارض حينئذ بين أقوال الصحابة، ولبحث هذه المسألة موضع آخر وإنما المقصود بيان خطأ هذا الإلزام الباطل، وأما تفسير لهو الحديث بالغناء فليس قول ابن عباس وحده، بل قال به جماعة من الصحابة والتابعين، وقد ذهب كثير من العلماء إلى أن قولهم في مثل هذا له حكم الرفع فيكون حجة وإن قيل إن قول الصحابي ليس بحجة، وهاك بعض ما ذكره ابن القيم حول هذه الآية في إغاثة اللهفان: قال الواحدي وغيره: أكثر المفسرين على أن المراد بلهو الحديث: الغناء قاله ابن عباس في رواية سعيد بن جبير ومقسم عنه وقاله عبدالله بن مسعود في رواية أبي الصهباء عنه وهو قول مجاهد وعكرمة، وروى ثور بن أبي فاختة عن أبيه عن ابن عباس في قوله تعالى: ومن الناس من يشتري لهو الحديث ـ قال: هو الرجل يشتري الجارية تغنيه ليلا ونهارا، وقد جاء تفسير لهو الحديث بالغناء مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ففي مسند الإمام أحمد ومسند عبدالله بن الزبير الحميدي وجامع الترمذي من حديث أبي أمامة والسياق للترمذي: أن النبي قال: لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام في مثل هذا نزلت هذه الآية: ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله ـ وهذا الحديث وإن كان مداره على عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد الإلهاني عن القاسم فعبيد الله بن زحر ثقة والقاسم ثقة وعلي ضعيف إلا أن للحديث شواهد ومتابعات سنذكرها ـ إن شاء تعالى ـ ويكفي تفسير الصحابة والتابعين للهو الحديث: بأنه الغناء فقد صح ذلك عن ابن عباس وابن مسعود، وصح عن ابن عمر أيضا أنه الغناء، قال الحاكم أبو عبدالله في التفسير من كتاب المستدرك: ليعلم طالب هذا العلم أن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي له والتنزيل عند الشيخين: حديث مسند، قال في موضع آخر من كتابه: هو عندنا في حكم المرفوع. انتهى.
وبعد فليتنبه العاقل إلى خطورة التكلم في دين الله تعالى بغير علم ولا بصيرة وإلى وجوب رد الأمر إلى أهله العالمين به، فلو سكت من لا يعلم لقل الخلاف، نسأل الله أن يهدي المسلمين لأرشد أمرهم.
والله أعلم.