السؤال
التوبة من الذنوب المحبطة للعمل، هل يعيد للتائب أجر أعماله التي حبطت بسبب هذه الذنوب، كالتوبة من المن أو الرياء مثلا؟
التوبة من الذنوب المحبطة للعمل، هل يعيد للتائب أجر أعماله التي حبطت بسبب هذه الذنوب، كالتوبة من المن أو الرياء مثلا؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالتوبة من الذنوب تمحو أثرها، وتجعلها كأن لم تكن كما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: التائب من الذنب كمن لا ذنب له. ومن تاب من ذنبه توبة صادقة تامة فإنه يعود إليه ثواب حسناته التي حبطت بالذنب، وقد ناقش العلامة ابن القيم رحمه الله هذه المسألة، ونحن ننقل من كلامه ما تدعو إليه الحاجة، قال رحمه الله في الوابل الصيب: ومحبطات الأعمال ومفسداتها أكثر من أن تحصر، وليس الشأن في العمل، إنما الشأن في حفظ العمل مما يفسده ويحبطه، فالرياء وإن دق محبط للعمل، وهو أبواب كثيرة لا تحصر، وكون العمل غير مقيد باتباع السنة أيضا موجب لكونه باطلا، والمن به على الله تعالى بقلبه مفسد له، وكذلك المن بالصدقة والمعروف والبر والاحسان والصلة مفسد لها كما قال سبحانه وتعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى. وأكثر الناس ما عندهم خبر من السيئات التي تحبط الحسنات، وقد قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون. فحذر المؤمنين من حبوط أعمالهم بالجهر لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما يجهر بعضهم لبعض، وليس هذا بردة بل معصية تحبط العمل وصاحبها لا يشعر بها... فإن قيل: فإذا تاب هذا هل يعود إليه ثواب العمل؟ قيل: إن كان قد عمله لغير الله تعالى وأوقعه بهذه النية فإنه لا ينقلب صالحا بالتوبة، بل حسب التوبة أن تمحو عنه عقابه فيصير لا له ولا عليه، وأما إن عمله لله تعالى خالصا ثم عرض له عجب ورياء أو تحدث به ثم تاب من ذلك وندم فهذا قد يعود له ثواب عمله ولا يحبط وقد يقال: إنه لا يعود إليه بل يستأنف العمل.
والمسألة مبنية على أصل، وهو أن الردة هل تحبط العمل بمجردها أو لا يحبطه إلا الموت عليها؟ فيه للعلماء قولان مشهوران، وهما روايتان عن الإمام أحمد رضى الله عنه.. فالعبد إذا فعل حسنة ثم فعل سيئة تحبطها ثم تاب من تلك السيئة هل يعود إليه ثواب تلك الحسنة المتقدمة؟ يخرج على هذا الاصل. والذي يظهر أن الحسنات والسيئات تتدافع وتتقابل ويكون الحكم فيها للغالب وهو يقهر المغلوب، ويكون الحكم له حتى كأن المغلوب لم يكن، فإذا غلبت على العبد الحسنات رفعت حسناته الكثيرة سيئاته، ومتى تاب من السيئة ترتبت على توبته منها حسنات كثيرة قد تربى وتزيد على الحسنة التي حبطت بالسيئة، فإذا عزمت التوبة وصحت ونشأت من صميم القلب أحرقت ما مرت عليه من السيئات حتى كأنها لم تكن، فإن التائب من الذنب لا ذنب له.
وقد سأل حكيم بن حزام رضى الله عنه النبي صلى الله عليه و سلم عن عتاقة وصلة وبر فعله في الشرك: هل يثاب عليه؟ فقال النبي صلى الله عليه و سلم أسلمت على ما أسلفت من خير، فهذا يقتضي أن الاسلام أعاد عليه ثواب تلك الحسنات التي كانت باطلة بالشرك فلما تاب من الشرك عاد إليه ثواب حسناته المتقدمة فهكذا إذا تاب العبد توبة نصوحا صادقة خالصة أحرقت ما كان قبلها من السيئات وأعادت عليه ثواب حسناته. انتهى بتصرف يسير.
وبه يتبين لك أن من أحبط ثواب صدقته بالمن والأذى إذا تاب توبة نصوحا مستوفية لشروطها فإن أثر ذنبه يزول ويبقى له ثواب حسنته، وهكذا في جميع الذنوب التي قد تكون سببا في حبوط العمل، فإن أثرها يزول بالتوبة النصوح.
وأما الرياء فإنه إن كان في أصل العمل لم يكن العمل مقبولا، ولا يكاد هذا يصدر من مؤمن، وإن خالط وصفه حبط منه بقدر ما خالطه من الرياء، ثم إن تاب المرائي زال عنه الإثم وبقي له ثواب ما وقع صحيحا من عمله إن شاء الله. وانظر لبيان أحوال مخالطة الرياء للعمل الفتوى رقم: 121464.
والله أعلم.