السؤال
لدي استفسار بخصوص التوكل والأخذ بالأسباب، فالتوكل أعرفه والأخذ بالأسباب أيضا أعرفه، لكن هناك نوعان للأخذ بالأسباب فأي منها هو الصحيح في المثال التالي: أنا مثلا أريد تسجيل نفسي في دورة تثقيفية وتوكلت على الله، فماذا أفعل؟ فهل:
1ـ أبحث وأبحث وأسأل عن أفضل مكان يقدم دورات وما إلى ذلك؟ أم
2ـ أتوكل على الله وآخذ بالأسباب التي يسوقها الله لي؟ يعني لا أبحث عنها بل هي تأتي من عند الله، مثل أن أكون بمجلس ويتحدثون عن مركز يقدم دورات فأذهب وأسجل فيه وأعلم أنه ما اختاره الله لي؟.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن التوكل على الله مطلوب في كل حال، كما قال الله تعالى: وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين {المائدة:23}.
وقال الله تعالى: وتوكل على الحي الذي لا يموت {الفرقان:58}.
وقال الله تعالى: ومن يتوكل على الله فهو حسبه {الطلاق:3}.
وهذا التوكل عرفه العلماء بمباشرة الأسباب مع استشعار أنها لا تؤثر إلا بإذن الله، وعليه فينبغي أن تسأل عن أفضل مكان يقدم دورات وتبذل ما تيسر من الأسباب في تحقيق مهمتك مع الاعتماد الحقيقي في إنجاح المهمة على الله وحده، فبذل السبب لا يناقض التوكل إذا كنت معتمدا على الله أثناء بذل السبب، بل هو مطلوب كما في الحديث: قيدها وتوكل. رواه الحاكم وجود إسناده الذهبي وحسنه الألباني.
وفي رواية: اعقلها وتوكل. رواه ابن حبان والترمذي وحسنه الألباني.
ويدل لهذا تخطيط النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة، فقد بذل أسبابا محكمة، ولما وقف المشركون على فم الغار قال أبو بكر لو نظر أحدهم تحت قدميه لأبصرنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما. رواه البخاري ومسلم.
كما يدل له أنه لبس درعه في غزوة أحد، كما في المسند بسند صحيح، وبناء عليه فإن من بذل وسعه في تحقيق مهمة وكان اعتماده في نجاحها على الله لا يعد فعله هذا منافيا للتوكل، لأن تعاطي الأسباب لا يتنافى في التوكل، قال شيخ الاسلام ابن تيمية: الالتفات إلى الأسباب، واعتبارها مؤثرة في المسببات شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسبابا نقص في العقل والإعراض عن الأسباب المأمور بها قدح في الشرع. اهـ.
ويقول شارح العقيدة الطحاوية: قد يظن بعض الناس أن التوكل ينافي الاكتساب، وتعاطي الأسباب، وأن الأمور إذا كانت مقدرة فلا حاجة إلى الأسباب، وهذا فاسد، فإن الاكتساب منه فرض، ومنه مستحب، ومنه مباح، ومنه مكروه، ومنه حرام، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أفضل المتوكلين يلبس لأمة الحرب، ويمشي في الأسواق للاكتساب. اهـ.
وقال ابن القيم: فلا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله تعالى، وإن تعطيلها يقدح في نفس التوكل، وإن تركها عجز ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ولا بد من هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، وإلا كان معطلا للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلا ولا توكله عجزا. اهـ.
وقال ابن حجر في الفتح: المراد بالتوكل اعتقاد ما دلت عليه هذه الآية: وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ـ وليس المراد به ترك التسبب والاعتماد على ما يأتي من المخلوقين، لأن ذلك قد يجر إلى ضد ما يراه من التوكل، وقد سئل أحمد عن رجل جلس في بيته، أو في المسجد وقال: لا أعمل شيئا حتى يأتيني رزقي، فقال: هذا رجل جهل العلم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا ـ فذكر أنها تغدو وتروح في طلب الرزق، قال: وكان الصحابة يتجرون ويعملون في نخيلهم والقدوة بهم. اهـ.
والله أعلم.