الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله سبحانه أن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان, وأن يجنبهم الشرور والفتن, وأن ينور بصائرهم, ويريهم الحق حقا, ويرزقهم اتباعه, ويريهم الباطل باطلا, ويرزقهم اجتنابه.
وينبغي للمسلم عند الفتن أن يتسع صدره للمخالف، فإن كثيرا من اختلاف الناس في الفتن يكون نابعا من جهل وضيق أفق، أو من تغرير وتضليل، فينبغي للمسلم أن يتسع صدره لمن حوله, طالما لم يظهر منهم كراهية لشريعة الله سبحانه وتعالى.
وأما تركك لفعل الخير مخافة أن يصل إلى المخالفين: فقد جانبك الصواب في ذلك، فهؤلاء المخالفون هم إخوانك في الدين، مهما خالفوا, ومهما جاروا وظلموا, طالما لم يكن فعلهم هذا بدافع الكراهية لشرع الله ـ كما سبق ـ.
وأما من يفرحون بقتل إخوانهم المسلمين فقد بلغ منهم الجهل والتعصب مبلغا عظيما، فإن قتل المسلم بغير حق منكر عظيم، قال عليه الصلاة والسلام: لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم. رواه النسائي والترمذي، وصححه الألباني.
فكيف يسوغ لمسلم أن يفرح بقتل أخيه المسلم؟! نسأل الله لهم الهداية، ومع ذلك فإن أجر الصدقة يحصل للمتصدق, ولو تبين أنه تصدق على فاسق أو صاحب كبيرة، فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رجل لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدثون تصدق على سارق، فقال: اللهم لك الحمد، لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يدي زانية، فأصبحوا يتحدثون تصدق الليلة على زانية، فقال: اللهم لك الحمد على زانية لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يدي غني، فأصبحوا يتحدثون تصدق على غني، فقال: اللهم لك الحمد على سارق, وعلى زانية، وعلى غني، فأتي فقيل له: أما صدقتك على سارق: فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما الزانية: فلعلها أن تستعف عن زناها، وأما الغني: فلعله يعتبر فينفق مما أعطاه الله. متفق عليه
وقال النووي في المجموع: فلو تصدق على فاسق، أو على كافر من يهودي، أو نصراني، أو مجوسي جاز. انتهى.
فينبغي ـ أيها الأخ الكريم ـ أن تستمر في فعل الخير، وأن تحلم على الجهول وتعفو عنه، مبتغيا بذلك مغفرة الله ورحمته, ولك في أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ أسوة حسنة في موقفه من مسطح بعدما خاض في عرض السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ وأنزل الله براءتها، قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه ـ وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره ـ والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة ما قال، فأنزل الله: "ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم" قال أبو بكر: بلى والله, إني أحب أن يغفر الله لي, فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله, لا أنزعها منه أبدا. متفق عليه.
وأما الشعور بالقهر والانكسار والضعف والحزن: فإن المسلم منهي عنه، قال تعالى: ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين {آل عمران:139}.
ولا يجوز للمسلم أن يظن بربه ظن السوء، أو أن يتهمه في حكمه، يقول ابن القيم: فمن ظن بأنه لا ينصر رسوله، ولا يتم أمره، ولا يؤيده، ويؤيد حزبه، ويعليهم، ويظفرهم بأعدائه، ويظهرهم عليهم، وأنه لا ينصر دينه وكتابه، وأنه يديل الشرك على التوحيد، والباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالا لا يقوم بعده أبدا، فقد ظن بالله ظن السوء, ونسبه إلى خلاف ما يليق بكماله وجلاله، وصفاته ونعوته، فإن حمده وعزته، وحكمته وإلهيته تأبى ذلك، وتأبى أن يذل حزبه وجنده، وأن تكون النصرة المستقرة، والظفر الدائم لأعدائه المشركين به، العادلين به، فمن ظن به ذلك، فما عرفه، ولا عرف أسماءه، ولا عرف صفاته وكماله، ومما ينبغي للمسلم إذا أصيب بمحنة أن ينشغل بتصحيح أعماله وإصلاح عيوبه، بدلا من اليأس والتعجب والإنكار، فما سلط على العبد من يؤذيه إلا بذنب يعلمه، أو لا يعلمه، وما لا يعلمه العبد من ذنوبه أضعاف ما يعلمه منها، وما ينساه مما علمه وعمله أضعاف ما يذكره.
وقد أصيب المسلمون في غزوة أحد بما يكرهون مع أن فيهم خير الأنام رسول الله صلى الله عليه وسلم وخيار الصحابة، ولكن سنة الله تعالى لا تحابي أحدا، فلما خالفوا أمر النبي عليه الصلاة والسلام حدث ما حدث، قال تعالى: أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير {آل عمران:165}.
وكم كان في غزوة أحد من عبر وعظات ذكرنا بعضها في الفتوى رقم: 20158.
وقد أفاض ابن القيم في استنباط حكم دقيقة ونفسية من غزوة أحد وذلك في كتابه القيم زاد المعاد في هدي خير العباد، فراجعها إن شئت، وحسبك - أخي الكريم - أن تتذكر قوله تعالى: فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا { النساء:19} فإياكم وسوء الظن بالله، فإنه قادر على نصركم، ولكن له أتم الحكمة في ابتلائكم ومصيبتكم: ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض. من تفسير السعدي.
وانظر الفتويين رقم: 9225، ورقم: 41227.
وبخصوص الدعاء راجع الفتوى رقم: 131738.
وأما قوله تعالى: ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا {المائدة:32}.
فقد ورد فيه عدة أقوال، منها: إحياؤها: ألا يقتل نفسا حرمها الله، فذلك الذي أحيا الناس جميعا، يعني: أنه من حرم قتلها إلا بحق، حيي الناس منه، قال ابن كثير، وهو الأظهر، أي: من شد على عضد نبي أو إمام عدل، فكأنما أحيا الناس جميعا، رواه ابن جرير، أي: عفا عن قاتل وليه، فكأنما أحيا الناس جميعا، وحكى ذلك عن أبيه. رواه ابن جرير، أي: أنجاها من غرق أو حرق أو هلكة. من تفسير ابن كثير بتصرف.
وهذا القول الأخير هو رواية عن مجاهد، فعلى هذا القول تشمل الآية من أنقذ مريضا من هلكة، فإن كان ترك اللوزتين يودي بصاحبه إلى الهلاك، فإن استئصالهما يندرج تحت هذه الآية الكريمة، وعلى كل فمساعدة الفقراء ومعالجة المرضى من الأعمال الصالحة العظيمة - نسأل الله لنا ولك القبول -.
والله أعلم.