السؤال
نحن بطبيعتنا إذا علم أحد منا أن شخصا ما كل يوم يأتيه بهدية، فهذا يجعل حبه نحوه يزيد مع الوقت حتى يصل إلى مرحلة العشق له.
فهذا شخص يعطينا هدايا، فكيف برب العالمين الذين نحن غارقون في نعمه وفضله! ومع هذا فأنا عندما أنظر إلى الجمال أو الرزق أو المأكل والمشرب، وأرى هذا الفضل العظيم الذي نحن فيه، أشعر بجمود نحو ذلك، ولا أشعر بزيادة الحب التي أشعرها نحو الله مثلما أشعرها نحو البشر.
فما علاج ذلك؟
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا ريب في أن محبة الله جل وعلا هي قطب رحا العبودية، ومن أجل بواعثها النظر في نعم الله جل وعلا، ونكتفي في بيان هذا بنقل كلام نفيس لابن القيم رحمه الله، حيث يقول في كتابه طريق الهجريتن في الكلام عن أسباب محبة الله: محبة تنشأ من الإحسان، ومطالعة الآلاء والنعم، فإن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها، ولا أحد أعظم إحسانا من الله سبحانه، فإن إحسانه على عبده في كل نفس ولحظة، وهو يتقلب في إحسانه في جميع أحواله، ولا سبيل له إلى ضبط أجناس هذا الإحسان فضلا عن أنواعه أو عن أفراده، ويكفي أن من بعض أنواعه نعمة النفس التي لا تكاد تخطر ببال العبد، وله عليه في كل يوم وليلة، فيه أربعة وعشرون ألف نعمة، فإنه يتنفس في اليوم والليلة أربعة وعشرين ألف نفس، وكل نفس نعمة منه سبحانه، فإذا كان أدنى نعمة عليه في كل يوم أربعة وعشرون ألف نعمة فما الظن بما فوق ذلك وأعظم منه: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} [إبراهيم: 34] [النحل: 18] ، هذا إلى ما يصرف عنه من المضرات وأنواع الأذى التي تقصده، ولعلها توازن النعم في الكثرة، والعبد لا شعور به بأكثرها أصلا، والله سبحانه يكلؤه منها بالليل والنهار كما قال تعالى: {قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن} [الأنبياء:42] ، وسواء كان المعنى من يكلؤكم ويحفظكم منه إذا أراد بكم سوءا، ويكون يكلؤكم مضمنا معنى يجيركم وينجيكم من بأسه، أو كانت "من" البدلية أى من يكلؤكم بدل الرحمن سبحانه، أي هو الذي يكلؤكم وحده لا كالئ لكم غيره، وعلى كلا القولين فهو سبحانه منعم عليهم بكلاءتهم، وحفظهم، وحراستهم مما يؤذيهم بالليل والنهار وحده، لا حافظ لهم غيره. هذا مع غناه التام عنهم، وفقرهم التام إليه من كل وجه، وفي بعض الآثار يقول تعالى: "أنا الجواد، ومن أعظم مني جودا وكرما؟ أبيت أكلأ عبادي في مضاجعهم وهم يبارزونني بالعظائم". وفي الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى السحاب قال: "هذه روايا الأرض يسوقها الله إلى قوم لا يذكرونه، ولا يعبدونه". وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله، إنهم ليجعلون له الولد، وهو يرزقهم ويعافيهم". وفي بعض الآثار: "يقول الله: ابن آدم، خيري إليك نازل، وشرك إلي صاعد، كم أتحبب إليك بالنعم، وأنا غني عنك، وكم تتبغض إلي بالمعاصي، وأنت فقير إلي، ولا يزال الملك الكريم يعرج إلي منك بعمل قبيح" ولو لم يكن من تحببه إلى عباده وإحسانه إليهم وبره بهم إلا أنه سبحانه خلق لهم ما في السموات والأرض، وما في الدنيا والآخرة، ثم أهلهم وكرمهم، وأرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه وشرع لهم شرائعه، وأذن لهم في مناجاته كل وقت أرادوا، وكتب لهم بكل حسنة يعملونها عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وكتب لهم بالسيئة واحدة، فإن تابوا منها محاها وأثبت مكانها حسنة، وإذا بلغت ذنوب أحدهم عنان السماء ثم استغفره غفر له، لو لقيه بقراب الأرض خطايا ثم لقيه بالتوحيد لا يشرك به شيئا لأتاه بقرابها مغفرة، وشرع لهم التوبة الهادمة للذنوب، فوفقهم لفعلها، ثم قبلها منهم وشرع لهم الحج الذي يهدم ما قبله، فوفقهم لفعله وكفر عنهم سيئاتهم به، وكذلك ما شرعه لهم من الطاعات والقربات وهو الذي أمرهم بها وخلقها لهم، وأعطاهم إياها ورتب عليها جزاءها، فمنه السبب ومنه الجزاء، ومنه التوفيق ومنه العطاء أولا وآخرا. وهم محل إحسانه كله منه ليس منهم شيئا، إنما الفضل كله والنعمة كلها، والإحسان كله أولا وآخرا: أعطى عبده ماله وقال: تقرب بهذا إلي أقبله منك، فالعبد له، والمال له، والثواب منه، فهو المعطي أولا وآخرا فكيف لا يحب من هذا شأنه؟ وكيف لا يستحي العبد أن يصرف شيئا من محبته إلى غيره؟ ومن أولى بالحمد والثناء والمحبة منه؟ ومن أولى بالكرم والجود والإحسان منه؟ فسبحانه وبحمده لا إله إلا هو العزيز الحكيم، ويفرح سبحانه وتعالى بتوبة أحدهم إذا تاب إليه أعظم فرح وأكمله، ويكفر عنه ذنوبه، ويوجب له محبته بالتوبة، وهو الذي ألهمه إياها، ووفقه لها، وأعانه عليها، وملأ سبحانه وتعالى سماواته من ملائكته، واستعملهم في الاستغفار لأهل الأرض، واستعمل حملة العرش منهم في الدعاء لعباده المؤمنين، والاستغفار لذنوبهم ووقايتهم عذاب الجحيم، والشفاعة إليه بإذنه أن يدخلهم جناته. فانظر إلى هذه العناية وهذا الإحسان، وهذا التحنن والعطف والتحبب إلى العباد واللطف التام بهم، ومع هذا كله بعد أن أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وتعرف إليهم بأسمائه وصفاته وآلائه، ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا يسأل عنهم، ويستعرض حوائجهم بنفسه، ويدعوهم إلى سؤاله، فيدعو مسيئهم إلى التوبة، ومريضهم إلى أن يسأله أن يشفيه، وفقيرهم إلى أن يسأله غناه، وذا حاجتهم يسأله قضاءها كل ليلة، ويدعوهم إلى التوبة وقد حاربوه، وعذبوا أولياءه وأحرقوهم بالنار. قال تعالى: {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق} [البروج: 10] . وقال بعض السلف: انظروا إلى كرمه كيف عذبوا أولياءه وحرقوهم بالنار، ثم هو يدعوهم إلى التوبة. فهذا الباب يدخل منه كل أحد إلى محبته سبحانه وتعالى، فإن نعمته على عباده مشهودة لهم، يتقلبون فيها على عدد الأنفاس واللحظات. وقد روي فى بعض الأحاديث مرفوعا: "أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني بحب الله"، فهذه محبة تنشأ من مطالعة المنن والإحسان، ورؤية النعم والآلاء، وكلما سافر القلب بفكره فيها ازدادت محبته وتأكدت، ولا نهاية لها فيقف سفر القلب عندها، بل كلما ازداد فيها نظرا ازداد فيها اعتبارا وعجزا عن ضبط القليل منها، فيستدل بما عرفه على ما لم يعرفه، والله سبحانه وتعالى دعا عباده إليه من هذا الباب، حتى إدا دخلوا منه دعوا من الباب الآخر وهو باب الأسماء والصفات الذي إنما يدخل منه إليه خواص عباده وأوليائه، وهو باب المحبين حقا الذي لا يدخل منه غيرهم، ولا يشبع من معرفته أحد منهم، بل كلما بدا له منه علم ازداد شوقا ومحبة وظمأ. فإذا انضم داعي الإحسان والإنعام إلى داعي الكمال والجمال لم يتخلف عن محبة من هذا شأنه إلا أردأ القلوب وأخبثها، وأشدها نقصا وأبعدها من كل خير ... إلى آخر كلامه رحمه الله .
وراجع للاستزادة حول وسائل تحقيق محبة الله جل وعلا الفتويين: 71891 111261 .
والله أعلم.