السؤال
أبي مصاب بمرض الزهايمر، وأنا الوحيد الذي أرعاه؛ لأنه منفصل عن والدتي. أحب أبي كثيرا وأتمنى برءه، ولكن مرضه يجعله في قمه العنف والتوتر، فهو لا ينام إلا قليلا جدا، ولا يريدني أن أنام أبدا، فأنا أغسل، وأطبخ وأرعاه، وأغسله، وأطعمه. وهذا كله لا مشكلة فيه. المشكلة تصرفاته النفسية، فهو عصبي، ويلقي بالأشياء من النافذة، ويبعثر كل شيء في البيت، ويمسك بأسلاك الكهرباء، ويلقي بأي شيء. كما أنه لا يسمح لي أن أنام أبدا طالما هو مستيقظ، وهذا كله ضغط عصبي علي، فأنا في المساء أحتاج للنوم؛ لأني أكون متعبا من تنظيف المنزل، والطبخ وهو يرفض أن أنام، فيقوم بجذبي من ملابسي، وجسدي طوال الوقت دون توقف. أنا أعلم أن هذا خارج عن إرادته وبسبب مرضه، ولكن هذا يشكل ضغطا عصبيا علي، فمثلا عندما أغسله يرفض ويفر هاربا من مكان الاستحمام، فأضطر لجذبه بالقوة وأغسله؛ لأنه يرفض الاستحمام فهو يبول، ويتبرز على نفسه، فيجب أن يغسل حتى يكون نظيفا، وهو دوما يرفض الاستحمام؛ لأنه يرفض الاستحمام باللين، فأغسله بالقوة.
المشكلة أني في بعض الأوقات أصيح وبأعلى صوتي عليه، وأغضب، كما أني في بعض الأحيان أقوم بدفعه عني؛ لأنه يقوم بجذبي من ملابسي وجسدي طوال الوقت، فأقوم بإبعاده عني؛ لأنه يتعامل بشدة وجذب لي، وأنا أحزن كثيرا على ذلك؛ لأني أتمنى دوما برءه، ولكن مرضه يجعلني دائما بلا راحة، وأنا أريد التوبة إذا كنت عاقا. فكيف إذا كنت بذلك عاقا أستطيع أن أبر أبي المصاب بالزهايمر؟
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن بر الوالد من أعظم القربات، وكلما صبرت عليه واحتسبت ذلك كان أجرك عند الله أعظم، فإن حياة أبيك ذخر للمبرة، ومصنع للحسنات، ومتجر للقربات، وفرصة لرد بعض الجميل، حتى قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: الوالد أوسط أبواب الجنة، فحافظ على والديك أو اترك. رواه ابن ماجه وصححه الألباني. وعقوقه من أعظم المحرمات، فلا يجوز رفع الصوت عليه، ولا نهره بل ولا ما هو دون ذلك مهما حصل منه، قال الله تعالى: فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما. [الإسراء:23].
ولما سئل سعيد بن المسيب: ما هذا القول الكريم؟ قال: قول العبد المذنب للسيد الفظ الغليظ.
وقال تعالى: وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا. [لقمان:15].
فتأمل قوله تعالى: (جاهداك) وعلى ماذا؟ على الشرك الأكبر!! وما وقع لك من أبيك لا يعدل شيئا أمام تلك المجاهدة على الكفر الصراح، ثم تأمل ! فكم من ولد شقي طول عمره ما أشقاه إلا موت أبيه وهو عليه غضبان، فأدرك ما فاتك من بره قبل أن يفوت الأوان ولات ساعة مندم، وتذكر قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: بابان معجلان عقوبتهما في الدنيا: البغي، والعقوق. صححه الحاكم والألباني.
وما ذكرت من رفع الصوت والصياح عليه، والشدة معه، فهذا من العقوق.
ففي الموسوعة الفقهية: ومن العقوق ما يبديه الولد لأبويه من ملل وضجر، وغضب، وانتفاخ أوداجه، واستطالته عليهما بدالة البنوة، وقلة الديانة خاصة في حال كبرهما.
ولاشك أن الوالد يتأذى من هذه التصرفات خاصة مع مرضه، وكبر سنه، وضعف جسده، وقلة صبره.
وقد قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح- رحمه الله- في فتاويه: العقوق المحرم كل فعل يتأذى به الوالد أو نحوه تأذيا ليس بالهين، مع كونه ليس من الأفعال الواجبة.
فنوصيك بالتوبة، وترك التذمر والتعصب، والصياح، ومقابلة غضبه بالحلم واللين، والصبر فالله يحب الصابرين، فأبوك من أحق الناس بحسن صحبتك بعد أمك.
وأما قولك: ( وأنا أحزن كثيرا على ذلك) فأرجو أن يكون ذلك ندما صادقا ليكون توبة نصوحا لا ترجع بعدها إلى غير بره، فلقد صبر والدك عليك صغيرا، فاصبر عليه كبيرا. وقد بين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عظم حق الوالد على الولد فقال: لا يجزي ولد والدا إلا أن يجده مملوكا، فيشتريه، فيعتقه. رواه مسلم. فهو سبب وجودك، وقد رعاك صغيره فارعه كبيرا .
وأما ما ذكرت من مرضه، فهذا يزيد المسؤولية عليك في رعايته وصيانته، والصبر عليه؛ ولذلك أكد الله تعالى على بر الوالدين حال كبرهما، فقال تعالى: إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما {الإسراء:23}
ثم تذكر نفسك وقد احدودب ظهرك، وشاب شعرك، وغزتك الأدواء، وهجرك الأهل والنسوان، ومالك إلا ولد واحد بالجوار، أرأيت كيف تجدك ساعتها لو عقك وقلاك، أرأيت كيف تحب أن يكون بره لك وأنت في تلك الحال، فكذلك فكن مع أبيك الآن، فإن الجزاء من جنس العمل.
والله أعلم.