السؤال
اصطفى الله الأنبياء دون بقية الخلق، ومنهم الرسل، ومنهم أولو العزم، ومنهم محمد صلى الله عليه وسلم سيد الخلق كلهم، فما هو معيار الاصطفاء عند الله؟ وهل للإنسان اختيار فيه ودور، أم أنه مجرد تفضل ونعمة؟
اصطفى الله الأنبياء دون بقية الخلق، ومنهم الرسل، ومنهم أولو العزم، ومنهم محمد صلى الله عليه وسلم سيد الخلق كلهم، فما هو معيار الاصطفاء عند الله؟ وهل للإنسان اختيار فيه ودور، أم أنه مجرد تفضل ونعمة؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالله تبارك وتعالى هو الحكيم الخبير، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، فلا يختار للنبوة إلا أصلح الناس لها، وأليقهم بها، قال السعدي في تفسير قوله تعالى: الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس {الحج:75}: أي: يختار ويجتبي من الملائكة رسلا، ومن الناس رسلا، يكونون أزكى ذلك النوع، وأجمعه لصفات المجد، وأحقه بالاصطفاء، فالرسل لا يكونون إلا صفوة الخلق على الإطلاق، والذي اختارهم واصطفاهم ليس جاهلا بحقائق الأشياء، أو يعلم شيئا دون شيء، وإنما المصطفى لهم، السميع البصير، الذي قد أحاط علمه وسمعه وبصره بجميع الأشياء، فاختياره إياهم عن علم منه أنهم أهل لذلك، وأن الوحي يصلح فيهم، كما قال تعالى: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} اهـ.
وقال ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية: قد تولى الله سبحانه الجواب عنه بقوله: {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم} وقوله: {لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم} .. وليس في الحكمة إطلاع كل فرد من أفراد الناس على كمال حكمته في عطائه ومنعه، بل إذا كشف الله عن بصيرة العبد، حتى أبصر جزءا يسيرا من حكمته في خلقه، وأمره وثوابه وعقابه، وتخصيصه وحرمانه، وتأمل أحوال محال ذلك - استدل بما علمه على ما لم يعلمه، ولما استشكل أعداؤه المشركون هذا التخصيص، قالوا: {أهؤلاء من الله عليهم من بيننا}؟ قال تعالى مجيبا لهم: {أليس الله بأعلم بالشاكرين}؟ فتأمل هذا الجواب، تر في ضمنه أنه سبحانه أعلم بالمحل الذي يصلح لغرس شجرة النعمة فتثمر بالشكر، من المحل الذي لا يصلح لغرسها، فلو غرست فيه لم تثمر، فكان غرسها هناك ضائعا لا يليق بالحكمة، كما قال تعالى: {الله أعلم حيث يجعل رسالته}. اهـ.
وقال الغزالي في معارج القدس: اعلم أن الرسالة أثرة علوية، وحظوة ربانية، وعطية إلهية، لا تكتسب بجهد، ولا تنال بكسب {الله أعلم حيث يجعل رسالته} {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان} ... فليس الأمر فيها اتفاقيا جغرافيا؛ حتى ينالها كل من دب ودرج، أو مرتبا على جهد وكسب؛ حتى يصيبها كل من فكر وأدلج، وكما أن الإنسانية لنوع الإنسان، والملكية لنوع الملائكة ليست مكتسبة لأشخاص النوع، وأن العمل بموجب النوعية ليس يخلو عن اكتساب واختيار لإعداد واستعداد، كذلك النبوة لنوع الأنبياء ليست مكتسبة لأشخاص النوع، وأن العمل بموجب النبوة ليس يخلو عن اكتساب واختيار لإعداد واستعداد. اهـ.
فالنبوة اصطفاء لا اكتساب، ولا يمكن للعبد بالاجتهاد في الطاعة والترقي في مقامات العبودية أن ينال مرتبة النبوة، بل هي اجتباء واصطفاء واختيار من الله تعالى، وليس معنى ذلك أن الأنبياء لم يكن فيهم مزية عن غيرهم، أو أنهم لم يكونوا أهلا للنبوة، فإنهم أفضل الخلق! وإنما معناه أنهم لم ينالوا هذه المرتبة باجتهادهم، وإنما نالوها بفضل الله عليهم، واجتبائه لهم، قال الأستاذ عبد الرؤوف محمد عثمان في رسالة محبة الرسول بين الاتباع والابتداع: لقد جرت سنة الله في خلقه أن يصطفي بعض عباده لمهمة النبوة والرسالة، كما قال تعالى: الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس {الحج: 75} وقال تعالى: إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين {آل عمران: 33} وقال تعالى: قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي {الأعراف: 144} وهذا الاصطفاء والاختيار منة إلهية، امتن الله بها على الأنبياء والمرسلين، فلم يصلوا إليها بكسب ولا جهد، ولا كانت ثمرة لعمل أو رياضة للنفس قاموا بها، كما يزعم الضلال من الفلاسفة، حيث ذهبوا إلى أن النبوة مكتسبة، وأن من هذب نفسه بالخلوة والعبادة، وأخلى نفسه عن الشواغل العائقة عن المشاهدة، وراض نفسه، وهذبها، تهيأ للنبوة. اهـ.
وقال الدكتور محمد الشظيفي في رسالته العلمية مباحث المفاضلة في العقيدة ص: 184: الأنبياء هم أفضل البشر على الإطلاق، هذه هي دلالة الكتاب والسنة والإجماع والنظر الصحيح ـ ثم فصل ذلك، ثم قال ـ : وقد اتضح في المبحثين السابقين أمران ظاهرا الدلالة على أفضلية الأنبياء على البشر وهما:
أولا: أن الأنبياء كانوا خيار أقوامهم قبل نبواتهم، فقد عصمهم الله عما يصغر أقدراهم.
ثانيا: أن النبوة اختيار من الله، واصطفاء، لا تبلغ بكسب، ولا بغيره، فجمع الله للأنبياء الفضل من أطرافه، ميزهم على خلقه من قبل النبوة، ثم زادهم فضلا عليهم بالنبوة، فلا يبلغ أحد منزلتهم. اهـ.
والله أعلم.