السؤال
والدي رجل يحب بعض أهل البدع، ويحب النظام السوري، ويدافع عنهم بشدة، ومن وراء ذلك طلق والدتي، ولكنه بعد وقت ندم، وكانت هذه الطلقة الثالثة، لكنه يريد أن يعيدها له وبالقوة، وهو يغضب علينا دائما، ويقول أننا لا نوافقه بآرائه السياسية والدينية، ودائما يعمل لنا فضائح أمام الناس، ويحكي علينا شيئا كاذبا، لكن في النهاية كبرت المشكلة، وترك البيت، وسكن بمفرده.
سؤالي الآن: كل متى يجب علي زيارته حتى لا أكون عاقة؟ فأنا أزوره لأني أخاف العقوق، لكني لا أحبه، وماذا علي تجاهه؟
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمعصية الوالد وفسقه، بل حتى كفره، لا يبيح عقوقه، ولا يسقط حقه في البر، كما قال تعالى: {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا} [لقمان: 15] قال السعدي في تفسيره: لم يقل: "وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فعقهما" بل قال: {فلا تطعهما} أي: بالشرك، وأما برهما: فاستمر عليه، ولهذا قال: {وصاحبهما في الدنيا معروفا} أي: صحبة إحسان إليهما بالمعروف، وأما اتباعهما وهما بحالة الكفر والمعاصي، فلا تتبعهما. اهـ.
وصلة الوالد والبر به، يختلف حد الواجب منه بحسب القدرة والحاجة، وعلى أية حال؛ فلا بد من عدم حصول العقوق، جاء في (الموسوعة الفقهية): ذهب فقهاء الحنفية والشافعية إلى أن درجات الصلة تتفاوت بالنسبة للأقارب، فهي في الوالدين أشد من المحارم، وفيهم أشد من غيرهم. اهـ.
وفيها أيضا: الصلة درجات بعضها أرفع من بعض، وأدناه: ترك المهاجرة، وصلتها بالكلام ولو بالسلام. ويختلف ذلك باختلاف القدرة والحاجة: فمنها واجب، ومنها مستحب. اهـ.
وقد اختلف أهل العلم في ضابط العقوق المحرم، قال ابن دقيق العيد في (إحكام الأحكام): ضبط الواجب من الطاعة لهما، والمحرم من العقوق لهما: فيه عسر، ورتب العقوق مختلفة. قال شيخنا الإمام أبو محمد بن عبد السلام: ولم أقف في عقوق الوالدين، ولا فيما يختصان به من الحقوق على ضابط أعتمد عليه. فإن ما يحرم في حق الأجانب: فهو حرام في حقهما، وما يجب للأجانب: فهو واجب لهما، فلا يجب على الولد طاعتهما في كل ما يأمران به، ولا في كل ما ينهيان عنه باتفاق العلماء. اهـ.
وقال ابن الملقن في (الإعلام بفوائد عمدة الأحكام): توقف الشيخ عز الدين في ضابط العقوق، وأقرب ما فيه: أنه كل فعل يتأذى به الوالد ونحوه تأذيا ليس بالهين. اهـ.
وقال القرطبي في تفسيره: عقوق الوالدين: مخالفتهما في أغراضهما الجائزة لهما، كما أن برهما: موافقتهما على أغراضهما. اهـ.
وحكى العيني في (عمدة القاري) شيئا من ذلك وزاد: قال الشيخ تقي الدين السبكي: إن ضابط العقوق: إيذاؤهما بأي نوع كان من أنواع الأذى، قل أو كثر، نهيا عنه أو لم ينهيا، أو يخالفهما فيما يأمران أو ينهيان بشرط انتفاء المعصية في الكل، وحكى قول الغزالي: أن أكثر العلماء على وجوب طاعتهما في الشبهات، ووافقهما عليه. اهـ. وراجعي الفتويين: 73463، 73485.
وأما البر: فيكون بالإحسان إليهما بالقول اللين الدال على الرفق بهما، والمحبة لهما، وتجنب غليظ القول الموجب لنفرتهما، وبمناداتهما بأحب الألفاظ إليهما، كيا أمي ويا أبي، وليقل لهما ما ينفعهما في أمر دينهما ودنياهما، ويعلمهما ما يحتاجان إليه من أمور دينهما، وليعاشرهما بالمعروف، أي: بكل ما عرف من الشرع جوازه، كما جاء في (الموسوعة الفقهية). وراجعي للأهمية الفتويين: 109767، 237685.
ومن جملة ما يختلف بحسب القدرة والحاجة: عدد مرات زيارة الوالد، فليس هناك حد عام للزيارة الواجبة له، وهنا يمكن اعتبار العرف الجاري في الناس، قال الشيخ ابن عثيمين: صلة الأقارب بما جرى به العرف واتبعه الناس؛ لأنه لم يبين في الكتاب ولا السنة نوعها ولا جنسها ولا مقدارها؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يقيده بشيء معين، بل أطلق؛ ولذلك يرجع فيها للعرف، فما جرى به العرف أنه صلة فهو الصلة، وما تعارف عليه الناس أنه قطيعة فهو قطيعة. اهـ.
والله أعلم.