السؤال
أبي -هداه الله وغفر له- يفعل أشياء كثيرة محرمة، منها ظلم الناس بطرق شتى، فعاش سنين عمره في عدم توفيق من الله.
ومنذ سنة أو أكثر أصبح يأخذ الصدقات (يذهب هو بنفسه إلى تلك الأماكن التي يتم فيها توزيع الطعام ويأخذ بنفسه)، وأنا وأهلي نرى أننا لسنا محتاجين لها، فحالنا المادي مقبول -ولله الحمد-، وأرى أنه من المفترض أن يكون حالنا أفضل من ذلك (لكن السبب هو عمى البصيرة في كيفية كسب الرزق وفي إنفاقه أيضا)، فماذا نفعل في الصدقات (الطعام) الذي يأتي به أبي؟
وأبي لا يقبل النصيحة، ومن ينصحه غالبا ما يعاديه.
مشكلتي الآن: أننا نسكن في عمارة بالإيجار، وأبي أجر بعض الشقق حتى يستطيع دفع الإيجار، وكان أحد المستأجرين قد خرج، وقبل خروجه هو وعائلته أخذ منه أبي بعض الأثاث، المشكلة أننا لا نعلم كيف أخذه أبي من المستأجر، لكن أخي يقول إنه سمع أبي يتحدث معه في الهاتف وما أستنتجه مما سمع: أن المستأجر قال لأبي إنه يريد إعطاء الأثاث لأناس فقراء، فقال له أبي إنه يعرف أناسا فقراء يعطيهم إياه (وهو يقصدنا نحن بذلك فهو يرى أننا فقراء)، فوافق المستأجر. ونحن نعرف أن أبي يكذب، وعندما جاء بالأثاث عندنا قال لنا إنه اشتراه بـ 3000 ريال، ويصعب علينا أن نسأله من أين أتيت به (كأننا نكذبه)؟ وحتى لو سألناه لن يقول الحقيقة.
وأنا قمت بتنظيف بعض الأثاث حتى أستعمله، وتعبت كثيرا، لكني خائفة أن يكون حراما علي وعلى أهلي.
فكرت أن أتواصل مع أهل المستأجر وأحاول أن أخبرهم عن مدى رضاهم لأخذنا للأثاث حتى نحلل أخذه بدون أن أشوه سمعة أبي، لكنهم سافروا ورقمهم عند والدي. وأختي تقول إن المستأجر لم يدفع الإيجار؛ فأخذ منه أبي هذا الأثاث بدل الإيجار، وأن المستأجر حاله المادي قليل، فيمكن أن يكون أعطانا الأثاث مضطرا، وأصلا لم يسكن الشقة كل الفترة التي استأجرها فيها سوى قليل، لكن لا أعرف مدى صحة هذا الكلام.
وإن نحن رفضنا أخذ الأثاث سيغضب أبي كثيرا ويستنكر ويرفض ذلك، خصوصا أنه دفع مبلغا من المال لنقل الأثاث وتركيب بعضه.
وأيا كانت الحقيقة أرشدونا ماذا نفعل -جزاكم الله خيرا-؟
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله لأبيك الهداية والرشاد، وأن يرده إليه ردا جميلا، ولا تيأسوا من نصحه بالحكمة والموعظة الحسنة ليتوب من تقصيره ويتحلل من المظالم التي ارتكبها قبل ألا يكون درهم ولا دينار، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "من كانت له عند أخيه مظلمة من عرضه أو شيء فليتحلله اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه" متفق عليه من حديث أبي هريرة.
وأما مسألة أكلكم مما يأتي به من طعام ونحوه من صدقات التطوع: فلا حرج عليكم فيه، كما لا حرج عليه هو في قبول ما يعطاه منها من غير مسألة ولا تعرض؛ قال ابن قدامة في المغني: "وكل من حرم صدقة الفرض من الأغنياء وقرابة المتصدق والكافر وغيرهم, يجوز دفع صدقة التطوع إليهم, ولهم أخذها". وقال الكاساني في بدائع الصنائع: وأما صدقة التطوع فيجوز صرفها إلى الغني؛ لأنها تجري مجري الهبة. انتهى.
وكره بعض العلماء تعرض غير الفقير للصدقة ولو كانت صدقة تطوع، لكن لو أعطيها فلا تحرم عليه ودفعها للمحتاج أفضل؛ قال النووي في المجموع: "تحل صدقة التطوع للأغنياء بلا خلاف، فيجوز دفعها إليهم، ويثاب دافعها عليها, ولكن المحتاج أفضل. قال أصحابنا: ويستحب للغني التنزه عنها, ويكره التعرض لأخذها ... ولا يحل للغني أخذ صدقة التطوع مظهرا للفاقة [أي: الفقر]" انتهى.
لكنك ذكرت أن والدكم يدعي كونه فقيرا ويزعم اتصافه بالفقر، وضابط الفقير كما قال الشربيني: (من لا مال له ولا كسب) يقع جميعهما أو مجموعهما (موقعا من حاجته) والمراد بحاجته ما يكفيه مطعما وملبسا ومسكنا وغيرها مما لا بد له منه على ما يليق بحاله وحال من في نفقته من غير إسراف ولا تقتير. انتهى بتصرف.
وعليه؛ فلينظر هل حاله كذلك ودخله لا يسد حاجته وحاجة من يعول فيكون فقيرا، أم أنه ليس كذلك فليتعفف حينئذ والتعفف خير؛ فاليد العليا خير من اليد السفلى، وقد أثنى الله على المتعففين عن المسألة رغم حاجتهم فقال: للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا [البقرة:273].
وقد سئل فضيلة الشيخ/ العثيمين -رحمه الله تعالى-: هل يجوز لميسور الحال أن يأخذ الصدقة من الأغنياء؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان هذا المال الذي يوزع مال زكاة فإنه لا يحل لأحد أن يأخذه، إلا إذا كان من أهل الزكاة، أما إذا كان المال صدقة من الصدقات فإن الصدقة تحل للغني، ولا يشترط أن يكون آخذها فقيرا. ولكن مع ذلك فإنني أنصح هؤلاء بأن يتعففوا بأنفسهم، ولا يذلوها في الأخذ من الصدقات، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اليد العليا خير من اليد السفلى، ويقول: ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله. واليد السفلى هي الآخذة، واليد العليا هي المعطية. مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ/ محمد بن صالح العثيمين.
وأما الأثاث الذي يدعي الأب كونه حصل عليه بطريق صحيح ولم يوكل بدفعه للفقراء: فالأصل ملكه له ويصدق فيما ادعى، ومجرد احتمال كذبه لا اعتبار له، ولا يرفع حكم الأصل، ولا يلزم البحث والتنقيب عنه؛ قال ابن تيمية في الفتاوى: "والأصل فيما بيد المسلم أن يكون ملكا له إن ادعى أنه ملكه ... إلى أن قال: فإذا لم أعلم حال ذلك المال الذي بيده، بنيت الأمر على الأصل".
وعليه؛ فلا حرج عليكم في الانتفاع بذلك، ولو كان واقع الأمر خلاف ما ادعى ولم تعلموا بذلك فيكون الإثم عليه لا عليكم؛ قال شيخ الإسلام: ( ... فإذا لم أعلم حال ذلك المال الذي بيده بنيت الأمر على الأصل، ثم إن كان ذلك الدرهم في نفس الأمر قد غصبه هو ولم أعلم أنا كنت جاهلا بذلك، والمجهول كالمعدوم ...)
ثم إننا ننبه هنا على أنه لا يجوز احتقار الأب والاستهزاء به ووصفه بما لا يليق، لكنه ينصح إن أخطأ بلطف وقول حسن هين لين، ولا ترد إساءته بمثلها لو أساء، فأحسنوا بره، وتلطفوا معه في النصح ليتوب إلى الله ويكف عما لا يليق به. وانظري الفتوى رقم: 18216.
والله أعلم.