السؤال
أنا فتاة عمري 23 سنة، ولا أعرف كيف أوازن بين مطالب الدنيا ومطالب الآخرة، وحينما أفكر في الآخرة وأنني يمكن أن أموت بعد سنة مثلا، يذهب تفكيري إلى أنني يجب أن أحفظ القرآن، وأصوم، وأخشع في صلاتي، وليس بالضرورة أن أكون امرأة عاملة، وحينما أفكر في الدنيا أطمح للعمل، وأفكر في أن أتفوق في الدراسة، وأتزوج من شخص مواصفاته عالية يناسب طموحاتي، فإن كنت أريد الآخرة فهل يجب أن أبيع الدنيا؟ وهل بيع الدنيا هو بالمفهوم الذي ذكرته، وهو أن أتخلى عن الطموحات؛ لأنني صدقا لا يمكن أن أجمع بينهما، فليس لي قلبان؟ وجزاكم الله خيرا.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه، ومن والاه، أما بعد:
فالتوازن بين السعي في مصالح الدنيا والعمل للآخرة يحصل بأن يسعى العبد لمصالح دنياه باقتصاد، من غير أن يؤديه سعيه إلى تضييع فريضة من فرائض الله تعالى، وقد جاء في حديث أبي حميد الساعدي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجملوا في طلب الدنيا... رواه ابن ماجه.
قال العلماء: قوله: أجملوا في الطلب ـ أجمل في الطلب إذا اعتدل، ولم يفرط.
والخلل إنما يقع عندما تؤثر الدنيا على الآخرة، وتكون الدنيا أكبر الهم، فعندها يفرط العبد في طلبها، ويضيع دينه بالانشغال بها، وقد قال عليه الصلاة والسلام: من كانت الآخرة همه: جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه: جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له. رواه الترمذي.
فإذا قام العبد بالفرائض، واقتصد في طلب مصالح الدنيا، فقد وازن، ولم يخرج عن ميزان العدل، ولا حرج على المسلم في السعي لتحصيل المنافع الدنيوية، قال صاحب أضواء البيان: قد جاء القرآن بجلب المصالح بأقوم الطرق، وأعدلها، ففتح الأبواب لجلب المصالح في جميع الميادين، قال تعالى: فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله {62:10} وقال: ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم {2:198}وقال: وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله {73:20} وقال:.... بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم {4:29}، ولأجل هذا جاء الشرع الكريم بإباحة المصالح المتبادلة بين أفراد المجتمع على الوجه المشروع؛ ليستجلب كل مصلحته من الآخر، كالبيوع، والإجارات، والأكرية، والمساقاة، والمضاربة، وما جرى مجرى ذلك. اهـ.
بل جعل النبي صلى الله عليه وسلم السعي في طلب الرزق من السعي في سبيل الله، ففي معجم الطبراني مرفوعا، وصححه الألباني لغيره: إن كان خرج يسعى على ولده صغارا، فهو في سبيل الله، وإن خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين، فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى على نفسه يعفها، فهو في سبيل الله، وإن كان خرج رياء وتفاخرا، فهو في سبيل الشيطان.
فاجتهدي ـ أيتها الأخت السائلة ـ في طاعة الله تعالى: بامتثال أمره، والبعد عن نهيه، ولك أن تسعي في مصالح دنياك من الدراسة، والتفوق فيها، وإذا استعنت بالله تعالى أعانك، واجعلي لكل شيء وقته، من غير إفراط، ولا تفريط، جاء في كتاب الزهد لهناد: عن وهب بن منبه قال: مكتوب في حكمة آل داود: حق على العاقل أن لا يغفل عن أربع ساعات من النهار: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها مع إخوانه الذين ينصحونه في نفسه ويصدونه عن عيوبه، وساعة يخلي بين نفسه وبين لذتها فيما يحل ويجمل، فإن هذه الساعة تكون عونا على هذه الساعة، واستجمام القلوب, وفضل, وبلغة، وحق على العاقل أن لا يكون طاعنا إلا في إحدى ثلاثة: يزود لمعاد، أو عزيمة لمعاش، أو لذة في غير محرم، وحق على العاقل أن يكون عالما بزمانه، مالكا للسانه، مقبلا على شأنه. اهــ.
والله أعلم.