0 370

السؤال

كيف أطهر نفسي الأمارة بالسوء، وأزكيها، لتكون نفسا لوامة، ثم نفسا مطمئنة؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد: 

فتطهير النفس وتزكيتها من أعظم مقاصد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم {الجمعة:2}.

وأقسم الله على فلاح من زكى نفسه بقوله: ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها {الشمس:7-10}

ومن أعظم ما تطهر به النفس وتزكو لزوم محاسبتها.

والأمر الثاني هو: مخالفتها فيما تدعو إليه من الباطل، وقد بين الإمام المحقق ابن القيم ـ رحمه الله ـ هذا العلاج، والطريق القويم لتزكية النفس في إغاثة اللهفان، ونحن ننقل من كلامه جملا يتبين بها المقصود، قال عليه الرحمة: والمقصود: ذكر علاج مرض القلب باستيلاء النفس الأمارة عليه، وله علاجان: محاسبتها، ومخالفتها، وهلاك القلب من إهمال محاسبتها، ومن موافقتها واتباع هواها، وفي الحديث الذي رواه أحمد، وغيره من حديث شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله ـ دان نفسه: أي: حاسبها، وذكر الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غدا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية ـ وذكر أيضا عن الحسن قال: لا تلقى المؤمن إلا يحاسب نفسه: وماذا أردت تعملين؟ وماذا أردت تأكلين؟ وماذا أردت تشربين؟ والفاجر يمضي قدما قدما لا يحاسب نفسه ـ وقال قتادة في قوله تعالى: وكان أمره فرطا {الكهف: 28} أضاع نفسه، وغبن، مع ذلك تراه حافظا لماله، مضيعا لدينه ـ وقال الحسن: إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه، وكانت المحاسبة من همته ـ وقال ميمون بن مهران: لا يكون العبد تقيا حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه؛ ولهذا قيل: النفس كالشريك الخوان، إن لم تحاسبه ذهب بمالك ـ وقال ميمون بن مهران أيضا: إن التقي أشد محاسبة لنفسه من سلطان عاص، ومن شريك شحيح...

ثم قال: وقد مثلت النفس مع صاحبها بالشريك في المال، فكما أنه لا يتم مقصود الشركة من الربح إلا بالمشارطة على ما يفعل الشريك أولا، ثم بمطالعة ما يعمل، والإشراف عليه، ومراقبته ثانيا، ثم بمحاسبته ثالثا، ثم بمنعه من الخيانة إن اطلع عليه رابعا، فكذلك النفس: يشارطها أولا على حفظ الجوارح السبعة التي حفظها هو رأس المال، والربح بعد ذلك، فمن ليس له رأس مال، فكيف يطمع في الربح؟ وهذه الجوارح السبعة، وهي: العين، والأذن، والفم، واللسان، والفرج، واليد، والرجل: هي مراكب العطب والنجاة، فمنها عطب من عطب بإهمالها، وعدم حفظها، ونجا من نجا بحفظها ومراعاتها، فحفظها أساس كل خير، وإهمالها أساس كل شر... فإذا شارطها على حفظ هذه الجوارح انتقل منها إلى مطالعتها، والإشراف عليها، ومراقبتها، فلا يهملها، فإنه إن أهملها لحظة رتعت في الخيانة ولا بد، فإن تمادى على الإهمال تمادت في الخيانة حتى تذهب رأس المال كله، فمتى أحس بالنقصان انتقل إلى المحاسبة، فحينئذ يتبين له حقيقة الربح والخسران، فإذا أحس بالخسران وتيقنه استدرك منها ما يستدركه الشريك من شريكه: من الرجوع عليه بما مضى، والقيام بالحفظ والمراقبة في المستقبل، ولا مطمع له في فسخ عقد الشركة مع هذا الخائن، والاستبدال بغيره، فإنه لا بد له منه، فليجتهد في مراقبته ومحاسبته، وليحذر من إهماله.

ويعينه على هذه المراقبة والمحاسبة: معرفته أنه كلما اجتهد فيها اليوم استراح منها غدا إذا صار الحساب إلى غيره، وكلما أهملها اليوم اشتد عليه الحساب غدا.

ويعينه عليها أيضا: معرفته أن ربح هذه التجارة سكنى الفردوس، والنظر إلى وجه الرب سبحانه، وخسارتها: دخول النار، والحجاب عن الرب تعالى، فإذا تيقن هذا هان عليه الحساب اليوم.

فحق على الحازم المؤمن بالله واليوم الآخر أن لا يغفل عن محاسبة نفسه، والتضييق عليها في حركاتها وسكناتها، وخطراتها، وخطواتها، فكل نفس من أنفاس العمر جوهرة نفيسة لا حظ لها، يمكن أن يشتري بها كنز من الكنوز لا يتناهى نعيمه أبد الآباد، فإضاعة هذه الأنفاس، أو اشتراء صاحبها بها ما يجلب هلاكه: خسران عظيم، لا يسمح بمثله إلا أجهل الناس، وأحمقهم، وأقلهم عقلا، وإنما يظهر له حقيقة هذا الخسران يوم التغابن: يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا {آل عمران: 30} ثم بين ـ رحمه الله ـ أن المحاسبة على نوعين: محاسبة قبل العمل، ومحاسبة بعد العمل، وبين وجه ذلك وأنواعه، فأجاد وأفاد -رحمه الله-، ثم قال: وأضر ما عليه الإهمال، وترك المحاسبة والاسترسال، وتسهيل الأمور وتمشيتها، فإن هذا يؤول به إلى الهلاك، وهذه حال أهل الغرور: يغمض عينيه عن العواقب، ويمشي الحال، ويتكل على العفو، فيهمل محاسبة نفسه والنظر في العاقبة...

ثم ذكر ـ رحمه الله ـ فوائد المحاسبة ثم قال: فمحاسبة النفس هو نظر العبد في حق الله عليه أولا، ثم نظره هل قام به كما ينبغي ثانيا؟ وأفضل الفكر الفكر في ذلك، فإنه يسير القلب إلى الله، ويطرحه بين يديه ذليلا خاضعا منكسرا كسرا فيه جبره، ومفتقرا فقرا فيه غناه، وذليلا ذلا فيه عزه، ولو عمل من الأعمال ما عساه أن يعمل، فإذا فاته هذا فالذي فاته من البر أفضل من الذي أتى. انتهى.

والفصل بكماله نافع جدا، وإنما اقتصرنا منه على محل الحاجة، والغرض المقصود أن محاسبة النفس هو أعظم سبيل لإصلاحها، ثم مخالفتها فيما تأمر به من الشر وتنهى عنه من الخير.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات