ما يبتلي الله به عباده المؤمنين لا يتعارض مع دفاعه عنهم

0 86

السؤال

أنا مسلم، أعيش في كندا. وأنا -ولله الحمد- أطلع على علوم القرآن، محاولا أن أغرف منه ما أستطيع، راجيا التقرب من الله عز وجل، وأتقدم إليك بسؤالي، متمنيا مساعدتكم لي بالإجابة:
أشكلت علي مطابقة الآية الكريمة: "إن الله يدافع عن الذين آمنوا" مع عدة أحداث دارت وتدور حولنا، ومنها على سبيل المثال: محنة الإمام أحمد -حسب ما أرى، وأنا مقر بقصور علمي وجهل لدي-: أن ما مر به يصل إلى حد تجاوز البلاء إلى الإهانة -وأستغفر الله من سوء الظن إذا كان سؤالي فيه تطاول، أو سوء أدب-، فلماذا سمح الله تعالى بعذاب الإمام؟
كذلك الشيخ أحمد ديدات -رحمه الله- مثلا: فأنا مهتم جدا بدراساته؛ لأحضر نفسي للدعوة -بإذن الله وتوفيقه- فلماذا وقع على الشيخ شلل كامل لمدة 9 سنوات؛ رغم أعماله التي قدمها في سبيل الدعوة؟ ولماذا يقع العذاب على الأطفال من قتل وسجن، مثلما يحدث كثيرا الآن؛ رغم أنهم غير مكلفين؟ أستغفر الله إن كان في سؤالي سوء أدب مع الله، وأنا -إن شاء الله- كلي حسن ظن به، خصوصا أن الله يبتليني، لكن ضمن حدود قدرتي، ولم يطلني من هذه المحن التي ذكرتها شيء -ولله الحمد-، وكل ما سألته أعطاني، ونعمه علي لا تعد ولا تحصى، خصوصا أنه يسر لي الاتصال بأهل الذكر مثلكم. وقد حاولت أن أجد جوابا عن أسئلتي، ولم أجد، فحاولت التفكير بالإجابة من خبرتي، ورأيت أن الإمام أحمد، والشيخ ديدات كانا راضيين بقضاء الله، فمن أنا حتى أتدخل!
وكذلك أعتقد أنه يجب أن أهتم بحياتي الخاصة، ولا أسأل مثل هذا السؤال عن غيري، لكن قد يسأل أحد المعاندين ويقول: انظر كيف عذب الله هؤلاء، ولو كانوا أولياءه لما عذبهم؟ أرجو مساعدتي بالإجابة، ولكم جزيل الشكر، وجزاكم الله كل خير.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد: 

فشكر الله لك حرصك على التأدب، وحسن عرض المسألة، ثم اعلم -بارك الله فيك- أن ما يبتلي الله به عباده المؤمنين، لا يتعارض مع دفاعه عنهم؛ فإن أعظم صور هذا الدفاع هي: تثبيتهم على الحق برغم الابتلاء وبأس الأعداء، وتوفيقهم للرضا بالمقدور برغم البأساء والضراء، وإعانتهم على القيام بوظائفهم وأعبائهم برغم ثقلها وشدتها، قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: إن الله يدافع عن الذين آمنوا [الحج: 38].

قال: المعنى يدفع عن المؤمنين بأن يديم توفيقهم؛ حتى يتمكن الإيمان من قلوبهم، فلا تقدر الكفار على إمالتهم عن دينهم، وإن جرى إكراه، فيعصمهم حتى لا يرتدوا بقلوبهم. وقيل: يدفع عن المؤمنين بإعلائهم بالحجة. وإن قتل كافر مؤمنا، فقد دفع الله عن ذلك المؤمن بأن قبضه إلى رحمته. اهـ.

وقال السعدي في تفسيره: هذا إخبار ووعد، وبشارة من الله للذين آمنوا، أن الله يدافع عنهم كل مكروه، ويدفع عنهم كل شر بسبب إيمانهم: من شر الكفار، وشر وسوسة الشيطان، وشرور أنفسهم، وسيئات أعمالهم، ويحمل عنهم عند نزول المكاره، ما لا يتحملون، فيخفف عنهم غاية التخفيف. كل مؤمن له من هذه المدافعة، والفضيلة بحسب إيمانه، فمستقل ومستكثر. اهـ.

 فحصول المدافعة لا يقتضي عدم نزول البلاء، أو حصول المصائب، بل يقتضي رفعها أو تخفيفها بعد حصولها، وأن تكون عاقبتها خيرا، فالعبرة بالخواتيم، والاعتبار بالعاقبة، إما في الدنيا وإلا في الآخرة، ومع ذلك؛ فالمؤمنون يهبهم الله من محبته، ومن الرضا، والصبر والاحتساب ما تهون به الشداد، وتسهل به الصعاب، قال ابن القيم في إغاثة اللهفان: المؤمن إذا أوذي في الله، فإنه محمول عنه بحسب طاعته وإخلاصه، ووجود حقائق الإيمان في قلبه، حتى يحمل عنه من الأذى ما لو كان شيء منه على غيره لعجز عن حمله، وهذا من دفع الله عن عبده المؤمن، فإنه يدفع عنه كثيرا من البلاء، وإذا كان لابد له من شيء منه، دفع عنه ثقله، ومؤونته، ومشقته، وتبعته. اهـ.

وقد سلط الله تعالى على الأنبياء -فضلا عن غيرهم- من آذاهم، بل وقتل بعضهم، وكذلك أتباعهم، ولكن العاقبة تكون لهم، كما قال هرقل لأبي سفيان: سألتك: كيف كان قتالكم إياه؟ فزعمت أن الحرب سجال ودول، فكذلك الرسل تبتلى، ثم تكون لهم العاقبة. متفق عليه.

وهذا لأن في الابتلاء من الحكم والعبر ما لا يمكن تحقيقه وحصوله إلا به؛ ولذلك كان أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، وقد ذكر ابن القيم طرفا حسنا من الأصول الجامعة في هذا المعنى، ومما أشار إليه:

- أن ابتلاء المؤمن كالدواء له، يستخرج منه الأدواء التي لو بقيت فيه أهلكته، أو نقصت ثوابه، وأنزلت درجته، فيستخرج الابتلاء والامتحان منه تلك الأدواء، ويستعد به لتمام الأجر، وعلو المنزلة.

- أن الله سبحانه وتعالى إنما خلق السماوات والأرض، وخلق الموت والحياة، وزين الأرض بما عليها؛ لابتلاء عباده وامتحانهم؛ ليعلم من يريده ويريد ما عنده ممن يريد الدنيا وزينتها.

- أن ما يصيب المؤمن في هذه الدار من إدالة عدوه عليه، وغلبته له، وأذاه له في بعض الأحيان، أمر لازم لا بد منه، وهو كالحر الشديد، والبرد الشديد، والأمراض، والهموم، والغموم، فهذا أمر لازم للطبيعة والنشأة الإنسانية في هذه الدار، حتى للأطفال والبهائم؛ لما اقتضته حكمة أحكم الحاكمين.

فلو تجرد الخير في هذا العالم عن الشر، والنفع عن الضر، واللذة عن الألم؛ لكان ذلك عالما غير هذا، ونشأة أخرى غير هذه النشأة، وكانت تفوت الحكمة التي مزج لأجلها بين الخير والشر، والألم واللذة، والنافع والضار.

وإنما يكون تخليص هذا من هذا وتمييزه في دار أخرى غير هذه الدار، كما قال تعالى: {ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون} [الأنفال: 37].

- أن ابتلاء المؤمنين بغلبة عدوهم لهم وقهرهم، وكسرهم لهم أحيانا، فيه حكم عظيمة، لا يعلمها على التفصيل إلا الله عز وجل: 

فمنها: استخراج عبوديتهم وذلهم لله، وانكسارهم له، وافتقارهم إليه، وسؤالهم نصرهم على أعدائهم.

ومنها: أنهم لو كانوا دائما منصورين غالبين قاهرين؛ لدخل معهم من ليس قصده الدين ومتابعة الرسول.

ومنها: أنه سبحانه يحب من عباده تكميل عبوديتهم على السراء والضراء، وفي حال العافية والبلاء، وفي حال إدالتهم والإدالة عليهم، فلله سبحانه على العباد في كلتا الحالين عبودية بمقتضى تلك الحال، لا تحصل إلا بها.

ومنها: أن امتحانهم بإدالة عدوهم عليهم يمحصهم، ويخلصهم، ويهذبهم... وراجع كلامه بطوله لمزيد الفائدة في كتاب (إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان  2/ 924-943).

وقد سبق لنا بيان أن وعود الله الكريمة للمؤمنين، إنما تتحقق بالطريقة التي تتفق مع الحكمة من الخلق، ألا وهي: الابتلاء والامتحان، وراجع في ذلك للأهمية الفتوى رقم: 117638، وانظر أيضا الفتوى رقم: 272722.

وأما ما يجري على الأطفال من الآلام والمصائب، فراجع في بيان حكمته الفتويين: 274774، 175719.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات