إلف المعصية قد يحول بين العبد والتوبة

0 66

السؤال

عمري 18 سنة، وأعاني من اضطراب، وازدواجية شديدة، وأحب الله حبا شديدا، وأحاول المواظبة على أداء فروضه، وقراءة القرآن، ولكني مع ذلك أرتكب المعاصي، وأشاهد الأفلام الإباحية، وأستغفر الله، وأندم، ولكني أعود إليها، وظللت عدة سنين أفعل ذلك، ثم أتوب، ثم أعود إليها، وهكذا، وأنا أعلم أن هذا خطأ، وأستمع إلى الأغاني، وأجد متعة في الاستماع إليها، وأشاهد التلفاز، والأفلام كثيرا، وأجد متعة في ذلك، مع علمي أن ذلك حرام، ولكني -كما قلت- أجد متعة في ذلك، ومع ذلك أقرأ القرآن، والأذكار، وأحاول أن أكون حسن الخلق مع الناس، وأفعل الخيرات، ولكني -ومثل أغلب الناس في سني- يكون مزاحي مع أصدقائي في أغلب الأوقات بالسباب، والنميمة، والسخرية من الناس، وأنا أعلم أن هذا حرام، وأستغفر الله على ذلك، وعلاوة على ذلك لقد ابتلاني الله في عدة أشياء في صحتي من أمراض، وشكل جسمي، وأنا أعلم أني أفضل من الكثير من الناس -والحمد لله على ذلك-، ولكني في كثير من الأحيان أحزن، وأفقد الأمل، ويعتريني اليأس من كل شيء، وفي بعض الأحيان أكون راضيا عن حالي، فأنا لا أعلم ماذا علي فعله؛ لأصلح علاقتي مع الله، وأكون من التائبين الذين حسنت توبتهم، فأنا أجد في حالي اضطرابا، وازدواجية، ورياء غريبا. أرجو الرد.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فبداية: ننبه الأخ السائل على أنه لا مجال للقنوط من رحمة الله تعالى، وإن كان العبد مذنبا ومفرطا في حق الله عز وجل، ولا سيما إذا اقترنت الذنوب بالخوف من الله، والندم، والاستغفار، وإتباعها بالحسنات الماحيات، فإنها تكون أقرب إلى العفو، وصاحبها متعرض لمغفرة الله، وتوفيقه له لتوبة صادقة، قال تعالى: وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم {التوبة:102}، قال السعدي: فهؤلاء خلطوا الأعمال الصالحة، بالأعمال السيئة، من التجرؤ على بعض المحرمات، والتقصير في بعض الواجبات، مع الاعتراف بذلك، والرجاء بأن يغفر الله لهم، فهؤلاء: عسى الله أن يتوب عليهم. اهـ.

وهنا لا بد من التذكير بأن اليأس من رحمة الله، وإن كان لا يجتمع مع الإيمان، إلا أن الأمن من مكر الله أيضا، سبيل للهلاك والبوار، فكما قال تعالى: إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون {يوسف:87}، فقد قال أيضا: أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون {الأعراف:99}.

ولذلك ننبه على أن الذنوب يحرم بها العبد من خير عظيم، فشؤم الذنب، وإلف المعصية، قد يحول بينه وبين الطاعة والتوبة، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه. رواه أحمد، وابن ماجه، وصححه ابن حبان، والحاكم، ووافقه الذهبي، وصححه المنذري، وحسنه العراقي، والبوصيري، والأرناؤوط.

وقد ذكر ابن القيم في كتاب الداء والدواء، من آثار الذنوب والمعاصي: أن المعاصي تزرع أمثالها، وتولد بعضها بعضا؛ حتى يعز على العبد مفارقتها، والخروج منها، كما قال بعض السلف: إن من عقوبة السيئة السيئة بعدها، وإن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، ومنها: أنها تضعف القلب عن إرادته، فتقوي إرادة المعصية، وتضعف إرادة التوبة شيئا فشيئا، إلى أن تنسلخ من قلبه إرادة التوبة بالكلية، فلو مات نصفه، لما تاب إلى الله، فيأتي بالاستغفار، وتوبة الكذابين باللسان بشيء كثير، وقلبه معقود بالمعصية، مصر عليها، عازم على مواقعتها متى أمكنه، وهذا من أعظم الأمراض، وأقربها إلى الهلاك. اهـ.

ثم اعلم ـ يرحمك الله ـ أن الله تعالى إنما خلقنا ليبتلينا، وهذا الابتلاء ـ أي: الامتحان، والاختبار ـ يميز بين الناس، أيهم يحسن، وأيهم يسيء؟ أيهم يقدم مرضاة الله تعالى على الدنيا، وزينتها، وشهواتها؟ وأيهم يؤثر هوى نفسه على مرضاة ربه؟ قال تعالى: إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا {الكهف:7}، وقال: ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب {آل عمران:179}.

ومن سبل هذه الامتحان ما يشير إليه قوله تعالى: زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد {آل عمران:14ـ 15}، قال السعدي: يخبر تعالى أنه زين للناس حب الشهوات الدنيوية، وخص هذه الأمور المذكورة؛ لأنها أعظم شهوات الدنيا، وغيرها تبع لها... فلما زينت لهم هذه المذكورات بما فيها من الدواعي المثيرات؛ تعلقت بها نفوسهم، ومالت إليها قلوبهم، وانقسموا بحسب الواقع إلى قسمين:

قسم جعلوها هي المقصود، فصارت أفكارهم، وخواطرهم، وأعمالهم الظاهرة والباطنة لها، فشغلتهم عما خلقوا لأجله، وصحبوها صحبة البهائم السائمة، يتمتعون بلذاتها، ويتناولون شهواتها، ولا يبالون على أي وجه حصلوها، ولا فيما أنفقوها وصرفوها، فهؤلاء كانت زادا لهم إلى دار الشقاء، والعناء، والعذاب.

والقسم الثاني: عرفوا المقصود منها، وأن الله جعلها ابتلاء وامتحانا لعباده؛ ليعلم من يقدم طاعته ومرضاته على لذاته وشهواته، فجعلوها وسيلة لهم، وطريقا يتزودون منها لآخرتهم، ويتمتعون بما يتمتعون به على وجه الاستعانة به على مرضاته، قد صحبوها بأبدانهم، وفارقوها بقلوبهم، وعلموا أنها كما قال الله فيها: ذلك متاع الحياة الدنيا ـ فجعلوها معبرا إلى الدار الآخرة، ومتجرا يرجون بها الفوائد الفاخرة، فهؤلاء صارت لهم زادا إلى ربهم... وتمام ذلك أن الله تعالى أخبر بعدها عن دار القرار، ومصير المتقين الأبرار، وأخبر أنها خير من ذلكم المذكور، ألا وهي الجنات العاليات، ذات المنازل الأنيقة، والغرف العالية، والأشجار المتنوعة المثمرة بأنواع الثمار، والأنهار الجارية على حسب مرادهم، والأزواج المطهرة من كل قذر، ودنس، وعيب ظاهر وباطن، مع الخلود الدائم الذي به تمام النعيم، مع الرضوان من الله الذي هو أكبر نعيم، فقس هذه الدار الجليلة بتلك الدار الحقيرة، ثم اختر لنفسك أحسنهما، واعرض على قلبك المفاضلة بينهما. اهـ.

فهذا هو الأصل الذي ينبغي للسائل أن يشغل به نفسه، ويديم فيه فكره؛ كي يحسن اختيار الطريق، ويتأهب لمخالفة هواه.

والذي يعينه على هذا هو الحياء من الله، ومراقبته، وتقواه، وخشيته، والخوف من عذابه وسخطه، فهذا هو الذي يعصم العبد من الزلل، وهو الذي يفوز به برضوان الله وجنته، كما قال تعالى: ولمن خاف مقام ربه جنتان {الرحمن:46}، وقال سبحانه: وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى {النازعات:40-41}، وهذا هو مقام الإحسان الذي سئل عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك. متفق عليه. وراجع في ذلك الفتاوى التالية أرقامها: 17666، 10800، 33860. وراجع فيما يتعلق بمضمون سؤالك، الفتاوى التالية أرقامها: 132470، 112268، 111852.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات