الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنعم، هذا الكلام صحيح، فإن مما يلحق المرء من الحسنات والسيئات: ما تسبب فيه، أو دعا إليه، أو اقتدي به فيه، مباشرة أو بواسطة، كما يدل عليه قول النبي صلى الله عليه في الحديث المشار إليه: ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة. وراجع في ذلك الفتاوى التالية أرقامها: 351763، 245143، 213925. وهذا يتحقق ولو لم يكن سابقا إلى الشر، بل يكفي أن يتسبب أو يقتدى به فيه، قال المناوي في فيض القدير: فيه حث على ندب الدعاء إلى الخير وتحذير من الدعاء إلى ضلالة أو بدعة، سواء كان ابتدأ ذلك أو سبق به. اهـ.
وقال القاضي عياض في إكمال المعلم: في هذا الأخذ بالمآل والسبب، لما كان هو سببها واقتدى فاعلها به في خيره أو شره كتب له مثل أجر العامل بذلك أو وزره، وإن لم يكن له في ذلك عمل، كما جاء في خبر ابن آدم القاتل لأخيه أن عليه كفلا من كل نفس قتلت، لأنه أول من سن القتل. اهـ.
وقال السيوطي في شرح صحيح مسلم: (ومن سن في الإسلام سنة سيئة) أي فعل فعلا قبيحا فاقتدى به فيه (كان عليه وزرها) أي وزر عمله تلك السيئة بنفسه (ووزر) عمل (من عمل بها من بعده) إلى يوم القيامة، أي عليه وزر تسببه في عملهم (من غير أن ينقص من أوزارهم شيء) قليل ولا كثير. ويفيد هذا الحديث الترغيب في الخير المتكرر أجره بسبب الاقتداء، والتحذير من الشر المتكرر إثمه بسبب الاقتداء. اهـ.
وقال البيضاوي في شرح مصابيح السنة: أفعال العباد - وإن كانت غير موجبة ولا مقتضية للثواب والعقاب بذواتها - إلا أنه تعالى أجرى عادته بربط الثواب والعقاب بها ارتباط المسببات بالأسباب، وفعل العبد ما له تأثير في صدوره بوجه، فكما يترتب الثواب والعقاب على ما يباشره ويزاوله، يترتب كل منهما على ما هو مسبب عن فعله، كالإرشاد إليه والحث عليه. اهـ. وتبعه على ذلك جماعة من الشراح، كالطيبي والسيوطي والزرقاني والمناوي وابن علان.
وقال ابن عثيمين في شرح رياض الصالحين: فيه التحذير من السنن السيئة، وأن من سن سنة سيئة؛ فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، حتى لو كانت في أول الأمر سهلة ثم توسعت، فإن عليه وزر هذا التوسع. اهـ.
وقال في شرح بلوغ المرام: فهو آثم من جهتين: من جهة أنه فعل معصية، ومن جهة أنه جهر بها، وحينئذ يتأسى الناس به من جهة وتهون المعصية في نفوس الناس. اهـ.
وقال أبو بكر ابن العربي في شرح موطأ مالك: كل معصية اختصت بصاحبها ولم تتعده، فوزرها مقصور عليه، وكلما تعدته فإنه يتعدى، والتعدي يكون بوجهين: يكون بالفعل نفسه، ويكون بتعليم الجاهل وتنبيه الغافل. والتعليم من أعظم أنواع التعدي، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من نفس تقتل إلا وعلى ابن آدم الأول كفل منها لأنه أول من سن القتل". ويشهد له قوله تعالى: من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها {النساء:85} وقوله: وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم {العنكبوت:13}. اهـ.
وقال الصنعاني في التحبير لإيضاح معاني التيسير: إن قلت: كيف حمل أوزار من بعده، {ولا تزر وازرة وزر أخرى}؟ قلت: ما حمل إلا وزره؛ لأنه فتح باب البدعة الذي دخل منه من تبعه، فكان عليه إثم فتح الباب، وإثم كل داخل منه, وعليهم آثام دخولهم، فهو نظير قوله تعالى: وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء {العنكبوت:12} في جواب من قال من الكفار: {اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم} ثم قال: {وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم} وهو وزر الإضلال، ووزر الضلال. اهـ.
ونظير هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقتل نفس ظلما، إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه كان أول من سن القتل. رواه البخاري ومسلم. قال القرطبي في المفهم: قوله "لأنه أول من سن القتل" نص على تعليل ذلك الأمر؛ لأنه لما كان أول من قتل كان قتله ذلك تنبيها لمن أتى بعده وتعليما له، فمن قتل كأنه اقتدى به في ذلك، فكان عليه من وزره. وهذا جار في الخير والشر. اهـ.
وقال السندي في حاشيتيه على سنن النسائي وعلى سنن ابن ماجه: فهو متبوع في هذا الفعل وللمتبوع نصيب من فعل تابعه وإن لم يقصد التابع اتباعه في الفعل. اهـ.
وقال ابن علان في دليل الفالحين: فكل من فعله بعده مقتد به ولو بواسطة أو وسائط. اهـ.
وقد بوب عليه البخاري في كتاب الاعتصام: (باب إثم من دعا إلى ضلالة، أو سن سنة سيئة؛ لقول الله تعالى: {ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم} [النحل: 25] الآية. اهـ.
وبوب عليه في كتاب الجنائز: (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوح من سنته لقول الله تعالى: {قوا أنفسكم وأهليكم نارا} [التحريم: 6] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: كلكم راع ومسئول عن رعيته فإذا لم يكن من سنته، فهو كما قالت عائشة رضي الله عنها: {لا تزر وازرة وزر أخرى} [الأنعام: 164] .. وما يرخص من البكاء في غير نوح. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها وذلك لأنه أول من سن القتل". اهـ.
قال الحافظ في فتح الباري: وجه الاستدلال لما ذهب إليه من هذه الآية – {قوا أنفسكم وأهليكم نارا} - أن هذا الأمر عام في جهات الوقاية، ومن جملتها أن لا يكون الأصل مولعا بأمر منكر لئلا يجري أهله عليه بعده، أو يكون قد عرف أن لأهله عادة بفعل أمر منكر وأهمل نهيهم عنه، فيكون لم يق نفسه ولا أهله ... ووجه الاستدلال من حديث "كلكم راع ومسئول عن رعيته" ما تقدم؛ لأن من جملة رعايته لهم أن يكون الشر من طريقته فيجري أهله عليه أو يراهم يفعلون الشر فلا ينهاهم عنه، فيسأل عن ذلك ويؤاخذ به. اهـ.
لكن يبقى التنبيه على أن إثم المتسبب ليس مساويا لإثم الفاعل بالضرورة، فقد يحتف بعمل أحدهما ما يجعل إثمه أعظم من إثم الآخر. وراجع الفتوى رقم: 215659.
والله أعلم.