منزلة الطمأنينة بأحكام الله والرضا بما يقضيه لعبده

0 26

السؤال

كيف للقلب أن يصل للطمأنينة والرضى، عندما يصاب بأمور لا يكاد يصدق أنها أصابته، ولم يحلم يوما أنها ستصيبه؟
إذا كانت الدنيا سبيلا للآخرة. فكيف يمكن العمل للآخرة والطاقة مشتتة في معالجة مصائب متوالية؟ وماذا تستفيد النفس من عقاب الظالم المتسبب بالأذى، بعد أن تصاب هي بالأذى؟
أريد أن أصل لمرحلة حب الله، بدل الخوف منه وتوقع المصائب.
ساعدوني.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فنحن نجيب على سؤالك الأول، وهو كيفية الوصول إلى منزلة الطمأنينة بأحكام الله والرضا بما يقضيه الله تعالى، مهما كثرت المصائب واشتدت البلايا فنقول: قد أشبع ابن القيم الكلام في هذا في شرح منازل السائرين، ونحن نسوق من كلامه ما يتبين به كيفية الوصول إلى تلك المنزلة السامية وحصول هذا المطلوب العظيم.

قال رحمه الله: وطريق الرضا طريق مختصرة، قريبة جدا، موصلة إلى أجل غاية. ولكن فيها مشقة. ومع هذا فليست مشقتها بأصعب من مشقة طريق المجاهدة. ولا فيها من العقبات والمفاوز ما فيها. وإنما عقبتها همة عالية. ونفس زكية، وتوطين النفس على كل ما يرد عليها من الله.

ويسهل ذلك على العبد: علمه بضعفه وعجزه ورحمته به، وشفقته عليه، وبره به، فإذا شهد هذا وهذا، ولم يطرح نفسه بين يديه، ويرضى به وعنه، وتنجذب دواعي حبه ورضاه كلها إليه: فنفسه نفس مطرودة عن الله، بعيدة عنه. ليست مؤهلة لقربه وموالاته، أو نفس ممتحنة مبتلاة بأصناف البلايا والمحن....

ثم قال رحمه الله: وإنما تستوي عنده النعمة والبلية في الرضا بهما لوجوه:

أحدها: أنه مفوض. والمفوض راض بكل ما اختاره له من فوض إليه. ولا سيما إذا علم كمال حكمته ورحمته، ولطفه وحسن اختياره له.

الثاني: أنه جازم بأنه لا تبديل لكلمات الله، ولا راد لحكمه. وأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. فهو يعلم أن كلا من البلية والنعمة بقضاء سابق، وقدر حتم.

الثالث: أنه عبد محض. والعبد المحض لا يسخط جريان أحكام سيده المشفق البار الناصح المحسن. بل يتلقاها كلها بالرضا به وعنه.

الرابع: أنه محب. والمحب الصادق: من رضي بما يعامله به حبيبه.

الخامس: أنه جاهل بعواقب الأمور. وسيده أعلم بمصلحته وبما ينفعه.

السادس: أنه لا يريد مصلحة نفسه من كل وجه، ولو عرف أسبابها. فهو جاهل ظالم. وربه تعالى يريد مصلحته، ويسوق إليه أسبابها. ومن أعظم أسبابها: ما يكرهه العبد، فإن مصلحته فيما يكره أضعاف أضعاف مصلحته فيما يحب. قال الله تعالى: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون} [البقرة: 216]. وقال تعالى: {فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا} [النساء: 19].

السابع: أنه مسلم. والمسلم من قد سلم نفسه لله. ولم يعترض عليه في جريان أحكامه عليه. ولم يسخط ذلك.

الثامن: أنه عارف بربه. حسن الظن به. لا يتهمه فيما يجريه عليه من أقضيته وأقداره. فحسن ظنه به يوجب له استواء الحالات عنده، ورضاه بما يختاره له سيده سبحانه.

التاسع: أنه يعلم أن حظه من المقدور ما يتلقاه به من رضا وسخط. فلا بد له منه. فإن رضي فله الرضا، وإن سخط فله السخط.

العاشر: علمه بأنه إذا رضي انقلب في حقه نعمة ومنحة، وخف عليه حمله، وأعين عليه. وإذا سخطه تضاعف عليه ثقله وكله، ولم يزدد إلا شدة. فلو أن السخط يجدي عليه شيئا لكان له فيه راحة أنفع له من الرضا به.

ونكتة المسألة: إيمانه بأن قضاء الرب تعالى خير له، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده، لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له. إن أصابته سراء شكر. فكان خيرا له. وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له. وليس ذلك إلا للمؤمن.

الحادي عشر: أن يعلم أن تمام عبوديته في جريان ما يكرهه من الأحكام عليه. ولو لم يجر عليه منها إلا ما يحب لكان أبعد شيء عن عبودية ربه. فلا تتم له عبوديته -من الصبر، والتوكل، والرضا، والتضرع، والافتقار، والذل، والخضوع، وغيرها- إلا بجريان القدر له بما يكرهه. وليس الشأن في الرضا بالقضاء الملازم للطبيعة. إنما الشأن في القضاء المؤلم المنافر للطبع.

الثاني عشر: أن يعلم أن رضاه عن ربه سبحانه وتعالى في جميع الحالات يثمر رضا ربه عنه، فإذا رضي عنه بالقليل من الرزق: رضي ربه عنه بالقليل من العمل. وإذا رضي عنه في جميع الحالات واستوت عنده، وجده أسرع شيء إلى رضاه إذا ترضاه وتملقه.

الثالث عشر: أن يعلم أن أعظم راحته، وسروره ونعيمه: في الرضا عن ربه تعالى وتقدس في جميع الحالات. فإن الرضا باب الله الأعظم، ومستراح العارفين، وجنة الدنيا. فجدير بمن نصح نفسه أن تشتد رغبته فيه. وأن لا يستبدل بغيره منه.

الرابع عشر: أن السخط باب الهم والغم والحزن، وشتات القلب، وكسف البال، وسوء الحال، والظن بالله خلاف ما هو أهله. والرضا يخلصه من ذلك كله ويفتح له باب جنة الدنيا قبل جنة الآخرة.

الخامس عشر: أن الرضا يوجب له الطمأنينة، وبرد القلب، وسكونه وقراره. والسخط يوجب اضطراب قلبه، وريبته وانزعاجه، وعدم قراره. اهـ.

 في كلام نفيس طويل، زاد فيه الإمام المحقق -رحمه الله- على ستين وجها، معينة على حصول منزلة الرضا، وإنما نقلنا شذرة من كلامه نظنها وافية بالمقصود بحسب ما تحتمله هذه الفتوى، ومراجعة تلك المنزلة برمتها من مدارج السالكين نافعة جدا إن شاء الله.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات