السؤال
أنا شاب متخرج من الجامعة، أعمل منذ حوالي عامين ونصف في أحد المصانع المتواجدة في المدينة التي أسكن فيها. المشكل أن العمال الذين أعمل معهم يتحدثون كثيرا الكلام الفاحش، فلا يكاد قولهم يخلو من الحديث بالكلام الفاحش، والبذيء، وذكر العورات، وسب الوالدين في ظهر الغيب، والنكت الساقطة، كما أن البعض منهم قد يسب الله في درجة الغضب الكبير، وهو نادر جدا ما يحصل. كما أن للغيبة نصيبا كبيرا في حديثهم، ولعلمك فهؤلاء معظمهم يصلي، ويصوم رمضان، وعددهم كبير، ولكن ألسنتهم جارحة، وتسمع منها ما لا يجوز من القول. وقد نصحت الكثير منهم -وليس كلهم- بترك الكلام الفاحش، وبينت لهم حرمته، وقد قمت بتغيير مكان عملي في المصنع، ولكن دون جدوى، فمعظم العمال إلا ما رحم ربي يتحدثون بهذه الطريقة، والتي أصبحت أمرا عاديا بينهم. وقد أثر هذا علي كثيرا. فقد أصبحت أحس بالقلق، وبالذنب؛ لأنني أسمع هذا الكلام الساقط، وأصبحت أخاف على نفسي أن أصبح مثلهم. فالكثير من العمال كان في البداية لا ينطق الفحش، ولكن مع مرور السنوات أصبح مثلهم، لا يخلو لسانه من الفحش؛ لأنه تعود على سماعه. وقد حاولت أن أجد عملا في مصنع، أو مدينة أخرى، ولكن الأمر ليس بالسهل، فإيجاد عمل في هذا الوقت ليس بالأمر الهين. فهل يجوز لي أن أكمل عملي في هذا المصنع، مع كل هذه الظروف التي ذكرتها سابقا؟ أو يجب تركه؟ وما حكم من يصر على الكلام الفاحش، ولو كان يصلي ويصوم. أفيدوني يرحمكم الله.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله ان يوفقك، وأن يزيدك حرصا على صيانة نفسك من المآثم.
وما ذكرته من فشو السباب، والغيبة، وفاحش القول لا ريب أنه أمر منكر، لكنه لا يقتضي تحريم العمل في المصنع، فليس المصنع مكانا مرصدا لتلك البذاءات! ثم إن عموم البلوى بمثل ذلك يجعل من العسير جدا تقييد إباحة العمل في أي وظيفة بعدم وجود من يصدر منهم سب أو شتم في مكان العمل!
وإنما الذي عليك: هو نصحهم والإنكار عليهم، ولا يضرك بعد ذلك إن لم يستجيبوا لنصحك.
وقد نص العلماء على أن الحاجة تسوغ الجلوس بمكان المنكر، فما ذكرته من باب أولى بالجواز والرخصة.
قال ابن تيمية: وقوله تعالى {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم}. فهذا يراد به أنه لا يشهد المنكرات لغير حاجة مثل قوم يشربون الخمر يجلس عندهم. وقوم دعوا إلى وليمة فيها خمر وزمر لا يجيب دعوتهم وأمثال ذلك. بخلاف من حضر عندهم للإنكار عليهم، أو حضر بغير اختياره. ولهذا يقال: حاضر المنكر كفاعله. وفي الحديث: {من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يشرب عليها الخمر}. اهـ. من مجموع الفتاوى.
وقال أيضا: قال تعالى: {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم} فجعل القاعد المستمع من غير إنكار بمنزلة الفاعل. ولهذا يقال: المستمع شريك المغتاب. وفي الأثر: من شهد المعصية وكرهها كان كمن غاب عنها، ومن غاب عنها ورضيها كان كمن شهدها. فإذا شهدها لحاجة أو لإكراه أنكرها بقلبه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم {من رأى منكم منكرا فليغيره بيده. فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان} .اهـ. مجموع الفتاوى.
وأما صدور الكلام المحرم من سب أو غيبة ونحو ذلك ممن يصلي ويصوم: فهو منكر، ومن المقطوع به أن فعل الطاعات لا يبيح لصاحبها الوقوع في المعاصي! وهذا يدل على تقصير في القيام بحقوق تلك الفرائض وأدائها على الوجه التام، فالطاعات من الأسباب الواقية من الوقوع في المعاصي، كما قال تعالى في شأن الصلاة: اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون {العنكبوت:45}.
قال ابن تيمية: بل " الصلاة نفسها " إذا فعلها كما أمر فهي تنهى عن الفحشاء والمنكر؛ كما روي عن ابن مسعود وابن عباس: إن في الصلاة منتهى ومزدجرا عن معاصي الله، فمن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد بصلاته من الله إلا بعدا ". وقوله: " لم يزدد إلا بعدا " إذا كان ما ترك من الواجب منها أعظم مما فعله، أبعده ترك الواجب الأكثر من الله أكثر مما قربه فعل الواجب الأقل، وهذا كما في " الصحيح " {عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا} . وقد قال تعالى: {إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا} . وفي السنن عن عمار {عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن العبد لينصرف من صلاته ولم يكتب له منها إلا نصفها، إلا ثلثها. . حتى قال: إلا عشرها} وعن ابن عباس قال: ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها. وهذا وإن لم يؤمر بإعادة الصلاة عند أكثر العلماء لكن يؤمر بأن يأتي من التطوعات بما يجبر نقص فرضه. ومعلوم أن من حافظ على الصلوات بخشوعها الباطن وأعمالها الظاهرة وكان يخشى الله الخشية التي أمره بها؛ فإنه يأتي بالواجبات؛ ولا يأتي كبيرة. اهـ. من مجموع الفتاوى.
وراجع الفتاوى: 128824، 145161، 114154، 20743.
والله أعلم.