الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فلم نقف على كلام للعلماء في خصوص الثواب الدنيوي المعجل الذي جاءت به النصوص لطاعات معينة -كالاستغفار، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم- هل يناله الدال عليها أم لا.
وإنما يتكلم العلماء عن قدر أجر الدال على الخير، هل هو مثل أجر العامل سواء بسواء؟ أم للدال مثل أجر العامل، لكن دون تضعيف؟ أم إن المقصود بالحديث هو أن للدال ثوابا، كما أن لفاعله ثوابا، ولا يلزم أن يكون قدر ثوابهما سواء؟
جاء في شرح النووي على صحيح مسلم: قوله صلى الله عليه وسلم: (من دل على خير، فله مثل أجر فاعله) فيه فضيلة الدلالة على الخير، والتنبيه عليه، والمساعدة لفاعله.
وفيه فضيلة تعليم العلم ووظائف العبادات، لا سيما لمن يعمل بها من المتعبدين، وغيرهم.
والمراد بمثل أجر فاعله: أن له ثوابا بذلك الفعل، كما أن لفاعله ثوابا، ولا يلزم أن يكون قدر ثوابهما سواء. اهـ.
وقال القرطبي في المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم: وقوله: (من دل على خير، فله مثل أجر فاعله)؛ ظاهر هذا اللفظ: أن للدال من الأجر ما يساوي أجر الفاعل المنفق. وقد ورد مثل هذا في الشرع كثيرا؛ كقوله: (من قال مثل ما يقول المؤذن، كان له مثل أجره)، وكقوله فيمن توضأ وخرج إلى الصلاة، فوجد الناس قد صلوا: (أعطاه الله من الأجر مثل أجر من حضرها، وصلاها)، وهو ظاهر قوله تعالى: {ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله فقد وقع أجره على الله}.
وهذا المعنى يمكن أن يقال به، ويصار إليه بدليل: أن الثواب على الأعمال، إنما هو تفضل من الله تعالى، فيهبه لمن يشاء على أي شيء صدر عنه.
وبدليل: أن النية هي أصل الأعمال، فإذا صحت في فعل طاعة، فعجز عنها لمانع منع منها، فلا بعد في مساواة أجر ذلك العاجز لأجر القادر الفاعل، أو يزيد عليه.
وقد دل على هذا: قوله صلى الله عليه وسلم: (نية المؤمن خير من عمله)، ولقوله: (إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم، حبسهم العذر).
وأنعم ما في هذا الباب حديث أبي كبشة الأنماري؛ الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الدنيا لأربعة نفير: رجل آتاه الله تعالى مالا وعلما، فهو يتقي فيه ربه، ويصل به رحمه، ويعلم لله فيه حقا، فهذا بأفضل المنازل. ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا، فهو يقول: لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، فأجرهما سواء، ورجل آتاه الله مالا ولم يؤته علما؛ فهو لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقا، فهذا بأخبث المنازل. ورجل لم يؤته الله مالا ولا علما؛ فهو يقول: لو أن لي مالا؛ لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، ووزرهما سواء).
وقد ذهب بعض الأئمة إلى أن المثل المذكور في هذه الأحاديث، إنما هو بغير تضعيف.
قال: لأنه يجتمع في تلك الأشياء أفعال أخر، وأعمال من البر كثيرة، لا يفعلها الدال الذي ليس عنده إلا مجد النية الحسنة، وقد قال صلى الله عليه وسلم للقاعد: (أيكم خلف الخارج في أهله وماله بخير، فله مثل نصف أجر الخارج)، وقال: (لينبعث من كل رجلين أحدهما، والأجر بينهما).
قلت: ولا حجة في هذا الحديث؛ لوجهين:
أحدهما: إنا نقول بموجبه؛ وذلك أنه لم يتناول محل النزاع، فإن الدعوى إنما هي: أن الناوي للخير المعوق عنه هل له مثل أجر الفاعل من غير تضعيف. وهذا الحديث إنما اقتضى مشاركة ومشاطرة في المضاعف، فانفصلا.
وثانيهما: أن القائم على مال الغازي، وعلى أهله، نائب عن الغازي في عمل لا يتأتى للغازي غزوه إلا بأن يكفى ذلك العمل، فصار كأنه يباشر معه الغزو، فليس مقتصرا على النية فقط، بل هو عامل في الغزو، ولما كان كذلك، كان له مثل أجر الغازي كاملا، وافرا، مضاعفا، بحيث إذا أضيف ونسب إلى أجر الغازي، كان نصفا له؛ وبهذا يجتمع معنى قوله صلى الله عليه وسلم : (من خلف غازيا في أهله بخير؛ فقد غزا)، وبين معنى قوله في اللفظ الأول: (فله مثل نصف أجره)، والله تعالى أعلم.
وعلى هذا يحمل قوله: (والأجر بينهما)، لا أن النائب يأخذ نصف أجر الغازي، ويبقى للغازي النصف، فإن الغازي لم يطرأ عليه ما يوجب تنقيصا لثوابه، وإنما هذا كما قال: (من فطر صائما، كان له مثل أجر الصائم، لا ينقصه من أجره شيء). اهـ.
وعلى كل حال؛ فإن فضل الله واسع، وعطاؤه غير محدود، فينبغي أن يسارع المسلم في نشر الخير، والدلالة عليه، مخلصا لله مريدا وجه الله والدار الآخرة، وأن يؤمل في رحمة الله، وأن يحسن الظن به سبحانه.
وراجع للفائدة، الفتاوى: 288364، 293593، 312220، 320650.
والله أعلم.