الرد على شبهة جمع المصحف على حرف واحد واعتراض ابن مسعود

0 46

السؤال

شبهة للملاحدة والمستشرقين عن جمع القرآن، والأحرف السبعة. أريد إجابتها.
يقول ابن تيمية في مجموع الفتاوى: القراءات السبعة هل هي حرف من الحروف السبعة أم لا؟
وهذا النزاع لا بد أن يبنى على الأصل الذي سأل عنه السائل وهو أن القراءات السبعة هل هي حرف من الحروف السبعة أم لا؟
فالذي عليه جمهور العلماء من السلف والأئمة أنها حرف من الحروف السبعة؛ بل يقولون: إن مصحف عثمان هو أحد الحروف السبعة، وهو متضمن للعرضة الآخرة التي عرضها النبي -صلى الله عليه وسلم- على جبريل، والأحاديث، والآثار المشهورة المستفيضة تدل على هذا القول.
لكن بالنسبة لهذا القول: هل ترك الأحرف الستة هو من تحريف القرآن أو ضياعه؟ والجواب: لا.
يقول الطبري في تفسيره: فإن قال: فما بال الأحرف الأخر الستة غير موجودة، إن كان الأمر في ذلك على ما وصفت، وقد أقرأهن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه، وأمر بالقراءة بهن، وأنزلهن الله من عنده على نبيه -صلى الله عليه وسلم-؟ أنسخت فرفعت، فما الدلالة على نسخها ورفعها؟ أم نسيتهن الأمة، فذلك تضييع ما قد أمروا بحفظه؟ أم ما القصة في ذلك؟
قيل له: لم تنسخ فترفع، ولا ضيعتها الأمة، وهي مأمورة بحفظها. ولكن الأمة أمرت بحفظ القرآن، وخيرت في قراءته وحفظه بأي تلك الأحرف السبعة شاءت.
ما الدليل على كلام الطبري أن الأمة ليست مأمورة بحفظ القرآن بجميع الأحرف؟
والجواب: هو إجماع الصحابة والمسلمين على هـذا الأمر. فالشبهة حول صحة الإجماع على هــذا.
وفي المصاحف لابن أبي داود: حدثنا عبد الله قال حدثنا عبد الله بن محمد بن النعمان قال: حدثنا سعيد بن سليمان قال: حدثنا أبو شهاب، عن الأعمش، عن أبي وائل قال: خطبنا ابن مسعود على المنبر فقال: {ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة} غلوا مصاحفكم، وكيف تأمروني أن أقرأ على قراءة زيد بن ثابت، وقد قرأت من في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بضعا وسبعين سورة، وأن زيد بن ثابت ليأتي مع الغلمان له ذؤابتان، والله ما أنزل من القرآن إلا وأنا أعلم في أي شيء نزل، ما أحد أعلم بكتاب الله مني، وما أنا بخيركم، ولو أعلم مكانا تبلغه الإبل أعلم بكتاب الله مني لأتيته. قال أبو وائل: فلما نزل عن المنبر جلست في الحلق فما أحد ينكر ما قال.
والذي يظهر لي ردا على المستشرقين:
1- أن ابن مسعود -رضي الله عنه- لم يخالف في جواز جمع الناس على حرف واحد، وإنما رفض ترك الحرف الذي تعلمه، فهو لم يكفرهم، ويتهمهم بتحريف القرآن، بل لما كان جمع الناس على حرف واحد جائزا، وعدم الجمع كذلك جائزا، بقي على رأيه.
يقول الشاطبي في الاعتصام: فلم يخالف في المسألة إلا عبد الله بن مسعود، فإنه امتنع من طرح ما عنده من القراءة المخالفة لمصاحف عثمان، … فتأمل كلامه، فإنه لم يخالف في جمعه، وإنما خالف أمرا آخر.
2- أن معارضة ابن مسعود -رضي الله عنه- لم يكن لجمع الناس على حرف واحد، بل لأنه لم يكن من لجنة نسخ المصاحف، بدليل أنه اعترض على ترك قراءته لقراءة زيد، ولو كان في الأمر تحريف وتضييع؛ لكان الاعتراض على عثمان في جمعه على حرف واحد أولى من الاعتراض على اختياره لزيد؛ لأن هذا الاعتراض الجزئي دليل الرضى بالأصل الكلي في الجمع على حرف واحد.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فليس في الاقتصار على حرف واحد من الأحرف السبعة تضييع لشيء من القرآن، فكل حرف منها كاف شاف، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أتاني جبرئيل وميكائيل، فجلس جبرئيل عن يميني، وجلس ميكائيل عن يساري، فقال: اقرأ على حرف، فقال: ميكائيل: استزده، فقال: اقرأ القرآن على حرفين. قال: استزده، حتى بلغ سبعة أحرف. قال: وكل كاف شاف. رواه النسائي وصححه الألباني.

وهذا يدل على أن الأصل هو أن يكون القرآن على حرف واحد، وأن تعدد هذه الحروف إنما هو من باب التخفيف والرخصة، وليس من باب الإلزام والإيجاب، فكيف ينسب من تمسك بالأصل إلى التفريط والتضييع؟! وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه. رواه البخاري ومسلم. فنحن أمرنا بالقراءة بما تيسر، فمن ألزم الأمة بحفظ الحروف السبعة هو المطالب بالدليل. 

وأما دليل الإجماع على صحة ما فعله عثمان -رضي الله عنه-، فهو صحيح، وما روي من مخالفة ابن مسعود فلا ينقض هذا الإجماع، لأن اعتراض ابن مسعود لم يكن على أصل فعل عثمان، وإنما على اختيار من يقوم بذلك، وما يترتب عليه من آثار، ثم إنه رجع بعد ذلك لموافقة الجماعة، ولذلك فإن ابن أبي داود في كتاب المصاحف عقد بابا في (اتفاق الناس مع عثمان على جمع المصاحف) ثم أعقبه بباب: (كراهية عبد الله بن مسعود ذلك) ثم أعقبه بباب: (رضاء عبد الله بن مسعود لجمع عثمان رضي الله عنه المصاحف) فراجعه للفائدة.

ونقل القرطبي في تفسيره عن أبي بكر الأنباري قال: ما بدا من عبد الله بن مسعود من نكير ذلك، فشيء نتجه الغضب، ولا يعمل به، ولا يؤخذ به، ولا يشك في أنه -رضي الله عنه- قد عرف بعد زوال الغضب عنه حسن اختيار عثمان ومن معه من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبقي على موافقتهم وترك الخلاف لهم. اهـ.

وقال ابن كثير في فضائل القرآن: عثمان -رضي الله عنه- جمع الناس على قراءة واحدة؛ لئلا يختلفوا في القرآن، ووافقه على ذلك جميع الصحابة، وإنما روي عن عبد الله بن مسعود شيء من التغضب بسبب أنه لم يكن ممن كتب المصاحف ... ثم رجع ابن مسعود إلى الوفاق، حتى قال علي بن أبي طالب: لو لم يفعل ذلك عثمان لفعلته أنا. اهـ.

وقال ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية في جمع عثمان للناس على مصحف واحد: فجمع الناس على حرف واحد اجتماعا سائغا، وهم معصومون أن يجتمعوا على ضلال، ولم يكن في ذلك ترك لواجب، ولا فعل لمحظور، إذ كانت قراءة القرآن على ‌سبعة ‌أحرف جائزة لا واجبة، ‌رخصة من الله تعالى، وقد جعل الاختيار إليهم في أي حرف اختاروه ... فلما رأى الصحابة أن الأمة تفترق وتختلف وتتقاتل إن لم تجتمع على حرف واحد، جمعهم الصحابة عليه. هذا قول جمهور السلف من العلماء والقراء، قاله ابن جرير وغيره. ومنهم من يقول: إن الترخص في الأحرف السبعة كان في ‌أول الإسلام، لما في المحافظة على حرف واحد من المشقة عليهم أولا، فلما تذللت ألسنتهم بالقراءة، وكان اتفاقهم على حرف واحد يسيرا عليهم، وهو أوفق لهم -: أجمعوا على الحرف الذي كان في العرضة الأخيرة. وذهب طوائف من الفقهاء وأهل الكلام إلى أن المصحف مشتمل على الأحرف السبعة لأنه لا يجوز أن يهمل شيء من الأحرف السبعة. وقد اتفقوا على نقل المصحف العثماني. وترك ما سواه. وقد تقدمت الإشارة إلى الجواب، وهو: أن ذلك كان جائزا لا واجبا، أو أنه صار منسوخا. اهـ.

وقال الدكتور فهد الرومي في كتاب دراسات في علوم القرآن: إن قيل: كيف جاز للصحابة ترك الأحرف الستة التي أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- قراءة القرآن بها، واقتصروا على حرف واحد؟ قيل: إن أمره إياهم بذلك لم يكن أمر إيجاب وفرض، وإنما كان أمر إباحة ورخصة.. وإذا كان ذلك لم يكن القوم بتركهم بقية الأحرف، تاركين ما عليهم نقله، بل كان الواجب عليهم من الفعل ما يؤدون به الواجب، وهو أحد هذه الأحرف, فإذا حفظوه، ونقلوه؛ فقد فعلوا ما كلفوا به. وقد علل ابن القيم -رحمه الله تعالى- جمع الناس على حرف واحد، فأحسن حيث قال: "فلما خاف الصحابة -رضي الله عنهم- على الأمة أن يختلفوا في القرآن، ورأوا أن جمعهم على حرف واحد أسلم، وأبعد من وقوع الاختلاف، فعلوا ذلك، ومنعوا الناس من القراءة بغيره، وهذا كما لو كان للناس عدة طرق إلى البيت، وكان سلوكهم في تلك الطرق يوقعهم في التفرق والتشتيت، ويطمع فيهم العدو, فرأى الإمام جمعهم على طريق واحد، فترك بقية الطرق جاز ذلك، ولم يكن فيه إبطال لكون تلك الطرق موصلة إلى المقصود، وإن كان فيه نهي عن سلوكه لمصلحة الأمة. اهـ.

وراجع للفائدة الفتوى: 142339.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات