السؤال
ما حكم اعتقاد أن القرآن الكريم كان من الممكن اختصاره في 50 سورة مثلا أو أقل؟
عندما أقرأ القرآن، أجد تكرارا كثيرا جدا حتى لو كان بكلمات مختلفة، لكنها تعطي نفس المعنى، ونفس العبرة، ونفس القصة. وأجد أن معظم القرآن عبارة عن:
- وعد للمؤمنين بالجنة، بعبارات مختلفة.
- وعد للكافرين بالنار والعذاب، بعبارات مختلفة.
- صفات الله "مثل السميع البصير" الخ..
- قصص الأنبياء.
وأشياء أخرى مثل خلق السماوات والأرض وغيره من الأشياء المكررة.
وأنا أقرأ أجد أن القرآن عبارة عن هذه الأشياء مكررة بعبارات مختلفة. فما الفائدة؟ أو أين الجديد؟ وما الفائدة من تكرار نفس القصة ونفس المعنى، ونفس كل شيء، لكن بعبارات مختلفة؟
قرأت فتاوى كثيرة هنا تقول: لتأكيد المعنى، أو للتركيز عليه، وغير ذلك، لكن لم أقتنع؛ لأن التكرار كثير جدا. وأعتقد أنه لو كان هذا التكرار موجودا في كتب ديانات أخرى، أو في أي كتاب آخر، فإنكم كنتم ستنتقدونه بسبب كثرة التكرار.
أنا أكره هذه الأفكار جدا، ولا أريد أن أقرأ القرآن وهذه الأفكار موجودة برأسي، وأحيانا أخاف أن يجعل الله كل ما قرأته هباء منثورا، ولا يعطيني أجر قراءة القرآن بسبب هذه الأفكار.
أنا لست قويا في اللغة العربية، مثلي مثل العوام من الناس. فكيف نرى إعجاز القرآن، ونكون شاهدين عليه، ومتأكدين منه؟
هل القرآن إعجاز فقط لمن يتقنون اللغة العربية؟ ماذا عن عامة البشر؟ كيف أتأكد من إعجاز القرآن، وأقرأ كل هذا التكرار وغيره وأنا مطمئن وراض، ولا توجد عندي كل هذه الأفكار المزعجة؟
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فسبب إشكال السائل، يرجع إلى أمرين: الأول ضعفه في اللغة العربية. والثاني: التعامل مع القرآن ككتاب معلومات!
وبيان ذلك أن إتقان اللغة التي نزل بها القرآن وحسن تذوقها، هو مفتاح إدراك أحد أهم أوجه إعجاز القرآن.
وهذا أمر بدهي، ولذلك قال تعالى: ولو نزلناه على بعض الأعجمين * فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين [الشعراء: 198، 199].
قال البغوي في تفسيره: الأعجمي، هو الذي لا يفصح، ولا يحسن العربية وإن كان عربيا في النسب ..
ومعنى الآية: ولو نزلناه على رجل ليس بعربي اللسان، فقرأه عليهم، بغير لغة العرب، ما كانوا به مؤمنين، وقالوا: ما نفقه قولك، نظيره قوله عز وجل: ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته [فصلت: 44]. اهـ.
وقال السعدي: {ولو نزلناه على بعض الأعجمين}. الذين لا يفقهون لسانهم، ولا يقدرون على التعبير لهم كما ينبغي. {فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين} يقولون: ما نفقه ما يقول، ولا ندري ما يدعو إليه، فليحمدوا ربهم، أن جاءهم على لسان أفصح الخلق، وأقدرهم على التعبير عن المقاصد بالعبارات الواضحة ... اهـ.
وأما الأمر الثاني، فبيانه أن القرآن لو جاء لمجرد التعليم أو زيادة المعلومات، لأشكل تكرار ما فيه من المعاني، ولكنه نزل تزكية للنفوس، وإصلاحا للقلوب، وهداية للناس، وتذكيرا لهم بأمر معادهم، ونحو ذلك مما لا بد فيه من التكرار، ولذلك وصف الله القرآن بأنه مثاني، فقال تعالى: الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد [الزمر: 23].
قال القاسمي في محاسن التأويل: {كتابا متشابها} أي يشبه بعضه بعضا. في الصحة والإحكام والبناء على الحق والصدق ومنفعة الخلق ووجوه الإعجاز {مثاني} جمع مثنى، بمعنى مردد ومكرر، لما ثنى من قصصه وأنبائه وأحكامه، وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده ومواعظه. اهـ.
فهذا التكرار ليس مقبولا فقط، بل هو مطلوب ومقصود، ويراد به التذكير، وتزكية النفس وصلاح القلب، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام ليلة كاملة، يكرر آية واحدة، وكذلك ورد تكرير قراءة الآيات عن كثير من السلف.
قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة: هذه كانت عادة السلف، يردد أحدهم الآية الى الصباح، وقد ثبت عن النبي أنه قام بآية يرددها حتى الصباح، وهي قوله: {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} فقراءة القرآن بالتفكر هي أصل صلاح القلب. اهـ.
وقد سبق لنا بيان الحكمة من تكرار القصص والتشريعات والمعاني في القرآن، وأن ذلك من محاسنه الظاهرة.
فراجع في ذلك الفتاوى: 217906، 1902، 49881، 103034، 247774.
والله أعلم.