الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فلا شك أنك قد أقدمت على ارتكاب ذنوب عظيمة، وآثام جسيمة.
وإدراكك لعظمة هذه الذنوب، وحاجتك للتوبة هو بداية السير في الطريق الصحيح.
واعلم أنه مهما عظمت الذنوب؛ فمغفرة الله أعظم، ومهما ضاق بك الحال؛ فرحمة الله أوسع، فهو يحب التوبة لعباده، ويحب التوابين، كما وصف بذلك نفسه، حيث قال: والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما{النساء:27}، وقال: إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين {البقرة:222}، فأقبل على التوبة بلا تردد، ولا تلتفت إلى من يقنطك من رحمة الله؛ فهذه آفة قد نهى الله عنها، وحذر منها، فقال: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم {الزمر:53}.
وقد ورد في سبب نزولها ما رواه مسلم في صحيحه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن ناسا من أهل الشرك قتلوا، فأكثروا، وزنوا، فأكثروا، ثم أتوا محمدا صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن الذي تقول، وتدعو لحسن، ولو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزل: (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما) ونزل: (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله).
فباب التوبة مفتوح لكل من أسرف على نفسه، وأتى الموبقات، ولو كانت شركا، أو كفرا، أو نفاقا، أو قتلا، أو زنى، قال تعالى: قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنت الأولين {الأنفال:38}، وذكر في سورة المائدة شرك اليهود والنصارى، ثم قال بعد ذلك: أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم {المائدة:74}، وقال عن المنافقين: إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا * إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما {النساء:146،145}.
وسبيل التوبة سهل ميسور؛ فهي لا تحتاج إلى طقوس خاصة، أو أن تكون بين يدي شيخ تعترف له بذنوبك، بل المطلوب أن تتوب بينك وبين ربك، وأن تحقق شروط التوبة الصادقة، وقد سبق بيانها في الفتويين التاليتين: 78925، 29785. فأقبل على التوبة.
واستسمح أباك فيما صدر منك تجاهه من عقوق، واحرص على بره، والإحسان إليه بما هو ممكن، فمن حق الوالد بره، والإحسان إليه، وإن أساء، وراجع الفتويين التاليتين: 16531، 299887.
ورد الحقوق المالية لأصحابها المعروفين الذين أخذتها منهم.
ومن عجزت عن الوصول إليه، فتصدق بماله بنية أنه لصاحبه، وانظر الفتوى: 6022.
ويلزمك التخلص من المال الذي اكتسبته من القمار، والترويج للخمر، ونحو ذلك، بإنفاقه على الفقراء، والمساكين، والمصالح العامة للمسلمين؛ بنية التخلص من المال الحرام. ولمزيد من التفصيل، يمكنك مطالعة الفتوى: 80994.
وأكثر من الدعاء بخير لهذا الرجل بأن يشفيه الله، ويعافيه، وأن يهديه إلى الإسلام، إن كان كافرا.
وادع لابنته بخير، واستغفر لها، إن كانت مسلمة.
وإن كانت كافرة؛ فاسأل الله أن يدفع عنك تبعة حقها عليك بما شاء، وراجع الفتوى: 68186.
فعليك بالإقبال على التوبة، فإذا تبت، تاب الله عليك.
فأحسن الظن بربك، وأمل فيه ما يسرك، ولا تلتفت إلى من يحاول أن يقنطك من رحمة الله.
وننصحك بأن تستحضر قصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفسا، فأدركته رحمة الله، فتاب، وقبل الله توبته، وهي في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على راهب، فأتاه، فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفسا، فهل له من توبة؟ فقال لا. فقتله، فكمل به مائة. ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجل عالم، فقال: إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة؟ فقال نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة. انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناسا يعبدون الله، فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك؛ فإنها أرض سوء. فانطلق حتى إذا نصف الطريق، أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى الله. وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرا قط. فأتاهم ملك في صورة آدمي، فجعلوه بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى، فهو له. فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة. قال قتادة: فقال الحسن: ذكر لنا أنه لما أتاه الموت نأى بصدره.
وبخصوص قصة الثلاثة الذي تخلفوا عن غزوة تبوك، ففيها دلالة على قبول التوبة مع عظم الذنب، كما أخبر الله عنهم في قوله: وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم {التوبة:118}.
وأما قصة مالك بن دينار؛ فإن كنت تعني بها قصة الرجل البلخي الذي قتل أمه حرقا برميها في التنور، فقد رواها ابن الجوزي في كتاب: البر والصلة، ولم نجد من حكم عليها بصحة أو ضعف، ثم إنها قائمة على رؤيا منامية حدثت لمالك بن دينار، فمثلها لا يعارض به ما جاء في الكتاب والسنة من أن الله يتوب على من تاب، ولا يعذبه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: التائب من الذنب، كمن لا ذنب له. رواه ابن ماجه. قال ابن تيمية: ونحن حقيقة قولنا: أن التائب لا يعذب، لا في الدنيا، ولا في الآخرة، لا شرعا، ولا قدرا. اهـ.
وأما الانتحار؛ فكن على حذر تام منه، ومن مجرد التفكير فيه؛ فلا يليق بعاقل مجرد التفكير فيه، فضلا عن الإقدام عليه بالفعل، وهو في الحقيقة ليس بعلاج، ولكنه انتقال عاجل إلى الشقاء الأعظم. وراجع في التحذير منه، والوعيد الوارد فيه الفتوى: 10397.
ثم إنك إذا أقدمت على الانتحار، فستزداد أمك قطعا ألما إلى ألم، وعذابا إلى عذاب.
والله أعلم.