الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فهنالك مسائل يحسن بنا بيانها قبل توجيه النصيحة لهذا الشاب، ولوالديه -نسأل الله المزيد من الهداية، والثبات، والاستقامة عليها-.
أولا: طلب العلم، والالتزام بأوامر الشرع من أعظم أسباب دفع غائلة التنطع، والغلو في الدين.
كما أن الجهل، والزيغ عن الحق، من أعظم الأسباب الجالبة لتلك الغائلة الكريهة، قال ابن حجر في الفتح مبينا سبب ضلال الخوارج: وهذا كله من آثار عبادة الجهال الذين لم تنشرح صدورهم بنور العلم، ولم يتمسكوا بحبل وثيق من العلم. اهـ.
فطلب العلم الشرعي لا يأتي إلا بخير، وكلما تضلع المرء من نصوص الشرع، وعقل معناها، كلما ابتعد عن الغلو وأسبابه والمروجين له؛ امتثالا لقول الله تعالى: لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق [النساء:171]، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين. رواه أحمد، والحاكم، وصححه الألباني. وحذرا من الهلاك الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه هو حال الغلاة في الدين، حيث يقول: هلك المتنطعون. قالها ثلاثا. رواه مسلم. إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة التي تذم التنطع والغلو في الدين، وتحذر منه.
ثانيا: جمع الصلوات لغير سبب شرعي، لا يجوز، ولا يسوغه ما ذكر من خوف منع الوالدين له، ولا نظن أن الوالدين المسلمين سيمنعان ولدهما أداء الصلاة في وقتها.
نعم، قد يمنعانه من الذهاب إلى المسجد، وحضور الجماعة؛ خوفا عليه من الاختلاط بمن يخافون منهم، لكن لن يمنعانه فيما نظن أن يصلي في البيت.
وإن منعاه؛ فلا تجوز له طاعتهما في ذلك، وليحاول أن يصلي متخفيا عنهما؛ حتى لا يصطدم بهما. وانظر للفائدة الفتويين التاليتين: 377491، 4724.
ثالثا: كشف الفخذ مسألة من مسائل الخلاف بين أهل العلم، وكذلك إسبال الثوب لغير خيلاء، وانظر في ذلك الفتويين التاليتين: 145629، 21266.
وعلى كل؛ فالسنة حثت على ستر فخذ الرجل، وعدم إسبال إزاره، والالتزام بذلك، ليس من الغلو، ولا هو جالب له، كما أن تركه لا يحمي منه، ولا ينافيه؛ فليبين هذا الفتى ذلك لأبويه وغيرهما ممن يدعونه إليه.
رابعا: الاستماع إلى الموسيقى قصدا حرام، نص على ذلك جماهير العلماء، ونقل غير واحد منهم الإجماع على حرمتها.
وأما سماعها دون قصد، ولا إصغاء؛ فلا يأثم بسببه المرء، إذا لم يمكنه إسكاتها، ولا التحول عنها؛ فقد أخرج الإمام أحمد، وغيره، عن نافع مولى ابن عمر، أن ابن عمر سمع صوت زمارة راع؛ فوضع أصبعيه في أذنيه، وعدل راحلته عن الطريق، وهو يقول: يا نافع، أتسمع؟، فأقول: نعم، فيمضي؛ حتى قلت: لا، فوضع يديه، وأعاد راحلته إلى الطريق، وقال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع صوت زمارة راع، فصنع مثل هذا.
ووجه الدلالة من الحديث كون ابن عمر لم يأمر نافعا بسد أذنيه؛ وذلك لأنه سامع، وليس مستمعا قصدا، ولو كان مجرد السماع حراما، لأمره أن يسدهما، كما فعل هو تورعا، يقول ابن القيم في كتابه: (الكلام على مسألة السماع): وأما كونه لم يأمر نافعا بسد أذنيه عنده، فلأن المحرم إنما هو الاستماع، والإصغاء، لا السماع من غير إصغاء واستماع؛ فلا يجب على الإنسان سد أذنيه عند سماع الأصوات المحرمة، وإنما الذي يحرم قصد استماعها، والإصغاء إليها. انتهى.
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله- في كتابه: "كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع": ومنها: أن الممنوع إنما هو الاستماع، لا مجرد السماع، لا عن قصد، وإصغاء، وقد صرح أصحابنا بأنه لو كان في جواره شيء من الملاهي المحرمة، ولا يمكنه إزالتها، لا يلزمه النقلة، ولا يأثم بسماعها لا عن قصد. وصرحوا ها هنا بأنه إنما يأثم بالاستماع، لا بالسماع. انتهى.
ولمزيد من الفائدة، انظر الفتويين التاليتين: 151823، 413923.
خامسا: التماثيل المجسمة لذوات الأرواح، لا يجوز اقتناؤها، ولا وضعها في البيت، ولو أمره أبواه بذلك؛ إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، لكن إذا كانا هما اللذان يضعانها في البيت؛ فلا يحرم عليه الجلوس فيه، مع إنكاره بقلبه لذلك. وللفائدة، انظر الفتوى: 376585.
وبعد بيان حكم هذه المسائل نصيحتنا لهذا الأخ أن يتلطف مع والديه، ويترفق بهما، وأن يكون تدينه سببا لزيادة بره، وإحسانه إليهما.
وليحذر مما يقع فيه كثير ممن يسلكون طريق التدين من الشباب حيث يقابلون ما قد يظهر من معارضة والديهم لتدينهم بالجفاء، وربما بالعقوق الصريح؛ مما يزيد الوالدين قسوة وتضييقا على الابن في تدينه.
وهذا خلاف ما أمر الله به في كتابه من إحسان صحبة الوالدين، ولو كانا مشركين، بل ويدعوان الابن إلى الشرك بالله، قال تعالى: ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون {العنكبوت:8}.
وليبين هذا الشاب لولديه ما بيناه له من أحكام برفق، ولين، وليحسن صحبتهما؛ فإن الإحسان يصير العدو وليا حميما، كما قال تعالى: ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم {فصلت:34}، فكيف إذا كان المحسن إليه هما الأبوان المفطوران على الرحمة، والشفقة، والحنو على ابنهما؟
فإذا بالغ الابن في بره بوالديه، وخفض جناح الذل لهما؛ فإنهما غالبا سيرفقان به، ويتركان التشديد عليه، ومضايقته في تدينه، بل سيتبين لهما أن طلبه للعلم، والتزامه بالشرع؛ خير له ولهما، وسيزول عنهما اللبس الذي كان عندهما في هذه القضية.
وقبل ذلك نوصيه بالاستعانة بالله جل وعلا، ودعائه بأن يثبته على الهدى، وأن ييسر أمره، وأن يهدي والديه.
والله أعلم.