السؤال
هل كان العلماء -كالنووي، وابن القيم، وابن الجوزي-، يهتمون بطلب العلم فقط، ولا يضيعون أي لحظة من وقتهم، وينعزلون عن الناس، ولا يخالطونهم إلا قليلا؟ ولو كان الأمر كذلك، فاعتزال الناس خير من مخالطتهم.
هل كان العلماء -كالنووي، وابن القيم، وابن الجوزي-، يهتمون بطلب العلم فقط، ولا يضيعون أي لحظة من وقتهم، وينعزلون عن الناس، ولا يخالطونهم إلا قليلا؟ ولو كان الأمر كذلك، فاعتزال الناس خير من مخالطتهم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله أن يوفقك.
واعلم أن الأصل أن مخالطة الناس في الخير أفضل من اعتزالهم، وقد جاء في الحديث -كما في سنن الترمذي- عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: المسلم إذا كان يخالط الناس، ويصبر على أذاهم، خير من المسلم الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم. وحسن إسناده ابن حجر في فتح الباري.
فالمخالطة محمودة، إذا كانت في الخير -كشهود الجمع والجماعات، وتعليم الناس، وعيادة المرضى، وتشييع الجنائز، وصلة الأرحام، ونحو ذلك-.
وأما العزلة: فتحمد إذا كانت عن الشر، حيث لا قدرة للمؤمن على إزالة الشر، أو تخفيفه -كاعتزال الناس زمن الفتن والحروب، واعتزال مجالس السوء، والفحش، واللغو، وفضول المخالطة التي لا فائدة فيها-.
والمخالطة والعزلة كلاهما تعتريه الأحكام التكليفية الخمسة، فكل منهما قد يجب، وقد يحرم، وقد يستحب، وقد يكره، وقد يباح، بحسب الأحوال، والأشخاص، والأزمان، والأماكن.
وننقل لك من كلام العلماء الذين سميتهم ما يجلي تقريرهم للموقف الشرعي من المخالطة والعزلة:
جاء في شرح النووي على صحيح مسلم، في كلامه على حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رجل: أي الناس أفضل -يا رسول الله-؟، قال: مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله، قال: ثم من؟ قال: ثم رجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه، ويدع الناس من شره متفق عليه.
قال: فيه دليل لمن قال بتفضيل العزلة على الاختلاط، وفي ذلك خلاف مشهور.
فمذهب الشافعي، وأكثر العلماء أن الاختلاط أفضل؛ بشرط رجاء السلامة من الفتن.
ومذهب طوائف أن الاعتزال أفضل.
وأجاب الجمهور عن هذا الحديث بأنه محمول على الاعتزال في زمن الفتن والحروب، أو هو فيمن لا يسلم الناس منه، ولا يصبر عليهم، أو نحو ذلك من الخصوص.
وقد كانت الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم-، وجماهير الصحابة، والتابعين، والعلماء، والزهاد مختلطين؛ فيحصلون منافع الاختلاط -كشهود الجمعة، والجماعة، والجنائز، وعيادة المرضى، وحلق الذكر-. اهـ.
وفي فتاوى النووي: مسألة: هل الانقطاع إلى الله تعالى في برية معتزلة عن الناس أفضل، أم الإقامة في البلد بسبب الجماعة؟
الجواب: إن خاف ضرا في دينه بالإقامة في البلد؛ فالأفضل له الانقطاع في البرية، أو في قرية لا ضرر عليه فيها في دينه، وإن لم يلحقه ضرر في دينه؛ فالإقامة في البلد.
فالإقامة به لشهود جماعات المسلمين، وشعائرهم، وحلق ذكرهم، ونحو ذلك أفضل، وينبغي له حينئذ أن لا يجالس من يخاف منه ضررا في دينه لبدعة، أو دعائه له إلى الدنيا وشهواتها، أو حديثه له في غيبة، ونحوها، أو غير ذلك من المفاسد. اهـ.
وقال ابن القيم في مدارج السالكين: الصنف الرابع، قالوا: إن أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت، ووظيفته ...
والأفضل في وقت نزول النوازل، وأذاة الناس لك، أداء واجب الصبر، مع خلطتك بهم، دون الهرب منهم؛ فإن المؤمن الذي يخالط الناس ليصبر على أذاهم، أفضل من الذي لا يخالطهم، ولا يؤذونه.
والأفضل خلطتهم في الخير، فهي خير من اعتزالهم فيه.
واعتزالهم في الشر، فهو أفضل من خلطتهم فيه، فإن علم أنه إذا خالطهم أزاله، أو قلله؛ فخلطتهم حينئذ أفضل من اعتزالهم.
فالأفضل في كل وقت وحال إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال، والاشتغال بواجب ذلك الوقت، ووظيفته، ومقتضاه.
وهؤلاء هم أهل التعبد المطلق. اهـ.
وقال أيضا في مدارج السالكين: وهؤلاء هم أهل الانقطاع والعزلة عن الناس وقت فساد الزمان، ولعلهم الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: يوشك أن يكون خير مال المرء غنما يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر، وقوله: ورجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه، ويدع الناس من شره.
وهذه الحال تحمد في بعض الأماكن والأوقات دون بعضها، وإلا فالمؤمن الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم، أفضل من هؤلاء.
فالعزلة في وقت تجب فيه، ووقت تستحب فيه، ووقت تباح فيه، ووقت تكره فيه، ووقت تحرم فيه. اهـ.
وقال فيه أيضا: وأما مفسدات القلب الخمسة، فهي التي أشار إليها: من كثرة الخلطة، والتمني، والتعلق بغير الله، والشبع، والمنام، فهذه الخمسة من أكبر مفسدات القلب...
فأما ما تؤثره كثرة الخلطة: فامتلاء القلب من دخان أنفاس بني آدم حتى يسود، يوجب له تشتتا، وتفرقا، وهما، وغما، وضعفا، وحملا لما يعجز عن حمله من مؤنة قرناء السوء، وإضاعة مصالحه، والاشتغال عنها بهم، وبأمورهم، وتقسم فكره في أودية مطالبهم وإراداتهم، فماذا يبقى منه لله، والدار الآخرة؟
هذا، وكم جلبت خلطة الناس من نقمة، ودفعت من نعمة، وأنزلت من محنة، وعطلت من منحة، وأحلت من رزية، وأوقعت في بلية؟ وهل آفة الناس إلا الناس؟ وهل كان على أبي طالب عند الوفاة أضر من قرناء السوء؟ لم يزالوا به حتى حالوا بينه وبين كلمة واحدة توجب له سعادة الأبد ...
والضابط النافع في أمر الخلطة أن يخالط الناس في الخير -كالجمعة، والجماعة، والأعياد، والحج، وتعلم العلم، والجهاد، والنصيحة-.
ويعتزلهم في الشر، وفضول المباحات، فإن دعت الحاجة إلى خلطتهم في الشر، ولم يمكنه اعتزالهم؛ فالحذر الحذر أن يوافقهم، وليصبر على أذاهم..
وإن دعت الحاجة إلى خلطتهم في فضول المباحات؛ فليجتهد أن يقلب ذلك المجلس طاعة لله، إن أمكنه، ويشجع نفسه، ويقوي قلبه، ولا يلتفت إلى الوارد الشيطاني القاطع له عن ذلك، بأن هذا رياء، ومحبة لإظهار علمك وحالك، ونحو ذلك؛ فليحاربه، وليستعن بالله، ويؤثر فيهم من الخير ما أمكنه. اهـ.
وقال ابن الجوزي في صيد الخاطر: ما زالت نفسي تنازعني -بما يوجبه مجلس الوعظ، وتوبة التائبين، ورؤية الزاهدين- إلى الزهد، والانقطاع عن الخلق، والانفراد بالآخرة؛ فتأملت ذلك، فوجدت عمومه من الشيطان؛ فإن الشيطان يرى أنه لا يخلو لي مجلس من خلق لا يحصون يبكون، ويندبون على ذنوبهم، ويقوم في الغالب جماعة يتوبون، ويقطعون شعور الصبا، وربما اتفق خمسون ومائة، ولقد تاب عندي في بعض الأيام أكثر من مائة، وعمومهم صبيان، قد نشؤوا على اللعب، والانهماك في المعاصي.
فكان الشيطان -لبعد غوره في الشر- رآني أجتذب إلي من أجتذب منه؛ فأراد أن يشغلني عن ذلك بما يزخرفه؛ ليخلو هو بمن أجتذبه من يده.
ولقد حسن لي الانقطاع عن المجالس ...
وأما الانقطاع، فينبغي أن تكون العزلة عن الشر، لا عن الخير، والعزلة عن الشر واجبة على كل حال، وأما تعليم الطالبين، وهداية المريدين؛ فإنه عبادة العالم...
فعليك بالنظر في السرب الأول، فكن مع السرب المتقدم، وهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، فهل نقل عن أحد منهم ما ابتدعه جهلة المتزهدين والمتصوفة من الانقطاع عن العلم، والانفراد عن الخلق؟ وهل كان شغل الأنبياء إلا معاناة الخلق، وحثهم على الخير، ونهيهم عن الشر؟! إلا أن ينقطع من ليس بعالم بقصد الكف عن الشر؛ فذاك مرتبة المحتمي، يخاف شر التخليط. اهـ.
وقال فيه أيضا: وعليك بالعزلة، فهي أصل كل خير، واحذر من جليس السوء، وليكن جلساؤك الكتب، والنظر في سير السلف.
فعليك بالعزلة، والذكر، والنظر في العلم؛ فإن العزلة حمية، والفكر والعلم أدوية، والدواء مع التخليط لا ينفع، وقد تمكنت منك أخلاط المخالطة للخلق، والتخليط في الأفعال، فليس لك دواء إلا ما وصفت لك.
فأما إذا خالطت الخلق، وتعرضت للشهوات، ثم رمت صلاح القلب، رمت الممتنع. اهـ.
وقال فيه أيضا: ما أعرف نفعا كالعزلة عن الخلق، خصوصا للعالم والزاهد؛ فإنك لا تكاد ترى إلا شامتا بنكبة، أو حسودا على نعمة، أو من يأخذ عليك غلطاتك!
فيا للعزلة ما ألذها! سلمت من كدر غيبة، وآفات تصنع، وأحوال المداجاة، وتضييع الوقت، ثم خلا فيها القلب بالفكر؛ بعدما كان مشغولا عنه بالمخالطة، فدبر أمر دنياه وآخرته، فمثله كمثل الحمية، يخلو فيها المعي بالأخلاط؛ فيذيبها. اهـ.
والله أعلم.