السؤال
نشأت مع أب من الريف قد كبر وترعرع فيه، ثم سافر للخارج بقصد طلب الرزق، ومكث بالخارج عمرا طويلا، فخلفيته ليست ريفية محضة، ولا هي حضرية محضة، بل هجين من الريف والحياة العزباء، مع خلفية عسكرية، حيث إنه قد أدى الخدمة العسكرية في بلده، والأم قد عاشت وترعرعت في بيئة حضرية -إلى حد ما- فكانت هذه العلاقة قائمة على أن الأب يعتمد اعتمادا كليا على الأم في التربية، وهو يرى أن دوره هو السعي في طلب الرزق، والعقاب، والتقويم إذا أخطأ أحد من الأولاد، وكان مشغولا جدا، حيث إنه في أوقات الإجازة كان يبحث عن عمل، لأنه يعتقد أن هذا دوره فقط، فلا يسألنا عن أحوالنا، ولا يجلس معنا فيتسامر أو يمزح، فنشأنا -أنا وإخوتي- في ظروف فريدة جدا، مما أدى إلى تكوين مختلف بين الأولاد أنفسهم، بل وأدى إلى توسع الفجوة بيننا وبينهم من قلة التواصل الفعال، مع العلم أن الأب والأم دائما ما يحافظان على تأدية العبادات الظاهرية والأمر بها، بل ويشددان عليها، ولكنهما لا يهتمان بالجانب النفسي، أو التأثير الروحي للإيمان بشكل عام، والأم أكثر اهتماما بهذا الجانب من الأب، لكونها حاصلة على ليسانس تربية، وهذا ما يجعل الأب معتمدا عليها في هذا الجانب، فهما يفترضان بأننا مسلمون موحدون، مؤمنون بالله، بل وأن قلوبنا مطمئنة بذلك، ولكن العكس ما هو حاصل، أي أنني شخصيا دخلت في دوامة الإلحاد والأفكار العدمية، ثم توجهت إلى الليبرالية والفردانية، بدافع أنني أبحث عن الراحة النفسية، حيث إنني لم أجدها في التربية التي يقدمانها لي، ولكن بفضل الله كلما أحيد عن الطريق يهديني الله للصواب، وبعد معرفة سبب كون هذا الطريق الذي سلكته خطأ، واختصارا للكلام فقد حاولت أن أصلح تفكير أبي بعد ما تبين لي أن لديه بعض التشكل الخاطئ لمصادر المعرفة، فحاولت إحالته على كتب أو مقاطع مرئية، ولكنه أيضا لا يستجيب حتى لجأت للحوار وكشف كل ما هو كائن بصدري، وفي خضم النقاش يرتفع صوتي ويرتفع صوته إلى درجة أنه لو رآنا أحدهم لما علم أنه أبي من لغة الحوار التي صار فيها بعض تساو بيني وبينه، ونقضي أوقاتا كثيرة على أمل أن نصل لنقطة اتفاق، ولكنه لا يعتمد على منهج علمي في النقاش معي، فأرجو أن تنصحوني، وتقوموني حتى أعلم الخطأ من الصواب.
والله الموفق.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنحمد الله أن هداك صراطه المستقيم، وبصرك بطريق الحق، فهذه نعمة ينبغي أن تشكر الله عليها بالحرص على العلم النافع والعمل الصالح، فبالشكر تدوم النعم وتزيد، قال تعالى: وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد {إبراهيم:7}.
والشكر يكون بالجنان، واللسان، والأركان، قال ابن القيم: الشكر يكون: بالقلب خضوعا واستكانة، وباللسان ثناء واعترافا، وبالجوارح طاعة وانقيادا... انتهى.
ومن الشكر أن تبر بوالديك، وتحسن إليهما، وتوصل إليهما ما تستطيع من الخير، وقد جاء بيان معنى البر في كتاب غذاء الألباب نقلا عن ابن أبي جمرة: المعنى الجامع: إيصال ما أمكن من الخير، ودفن ما أمكن من الشر، بحسب الطاقة.
والنصح له آدابه التي ينبغي مراعاتها، ومن ذلك أن يكون برفق ولين رجاء أن يؤتي ثمرته، قال الله سبحانه: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن{النحل:125}.
وروى مسلم في صحيحه، عن عائشة -رضي الله عنها- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه.
وإذا كان هذا الأدب في نصح العامة، فإنه يتأكد في نصح الوالدين، قال ابن مفلح في الآداب الشرعية: فصل في أمر الوالدين بالمعروف ونهيهما عن المنكر، وقال في رواية حنبل: إذا رأى أباه على أمر يكرهه، يعلمه بغير عنف ولا إساءة، ولا يغلظ له في الكلام، وإلا تركه، وليس الأب كالأجنبي. انتهى.
ولو أمكنك أن تجد من العلماء والفضلاء من يمكنه أن يبين لأبيك ما يحتاج لبيان، ويوجهه في ما قد يحتاج فيه إلى توجيه لكان أفضل، ولمزيد من التوجيهات في هذا الجانب راجع هذه الاستشارة في موقعنا على الرابط:
https://www.islamweb.net/ar/consult/17789
وغاية أمرك مع أي من والديك أن تبذل أسباب الهداية بالنصح والبيان والدعاء بالخير، وأما هداية القلوب: فليست من شأنك، بل يملكها علام الغيوب، كما قال الله عز وجل: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين {القصص:56}.
وتذكر دائما أنه والدك، فيجب عليك أن تلتزم الأدب معه، وأن تحسن العبارة في الكلام معه، ولا يجوز لك أن ترفع عليه صوتك، فإنه موجب للعقوق، وهو كبيرة من كبائر الذنوب، قال المولى تبارك وتعالى: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا {الإسراء:23 ـ 24}.
جاء في روح المعاني للألوسي: المراد من قوله تعالى: ولا تقل لهما أف ـ المنع من إظهار الضجر القليل والكثير، والمراد من قوله سبحانه: ولا تنهرهما ـ المنع من إظهار المخالفة في القول على سبيل الرد عليهما، والتكذيب لهما، ولذا روعي هذا الترتيب، وإلا فالمنع من التأفيف يدل على المنع من النهر بطريق الأولى، فيكون ذكره بعده عبثا فتأمل، وقل لهما بدل التأفيف والنهر: قولا كريما- أي جميلا، لا شراسة فيه.
والله أعلم.