الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإنه يجوز لك التصدق بمبلغ قليل من مصروفك الشخصي الذي تأخذه من أهلك، ونرجو لك به الأجر الكثير، ففي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، وإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها، كما يربي أحدكم فلوه، حتى تكون مثل الجبل.
وفي حديث أبي هريرة أنه قال: يا رسول الله، أي الصدقة أفضل؟ قال: جهد المقل، وابدأ بمن تعول. رواه أبو داود.
وفي الحديث: سبق درهم مائة ألف درهم، قالوا: وكيف؟ قال: كان لرجل درهمان تصدق بأحدهما، وانطلق رجل إلى عرض ماله، فأخذ منه مائة ألف درهم، فتصدق بها. رواه النسائي.
قال السندي في حاشيته: وظاهر الأحاديث أن الأجر على قدر حال المعطي، لا على قدر المال المعطى، فصاحب الدرهمين حيث أعطى نصف ماله في حال لا يعطي فيها إلا الأقوياء يكون أجره على قدر همته بخلاف الغني، فإنه ما أعطى نصف ماله، ولا في حال لا يعطى فيها عادة. اهـ.
وقال ابن القيم في عدة الصابرين: وهذه الأحاديث كلها تدل على أن جهد المقل أفضل من صدقة كثير المال ببعض ماله الذي لا يتبين أثر نقصانه عليه، وإن كان كثيرا؛ لأن الأعمال تتفاضل عند الله بتفاضل ما في القلوب، لا بكثرتها، وصورها، بل بقوة الداعي، وصدق الفاعل، وإخلاصه، وإيثاره الله على نفسه، فأين صدقة من آثر الله على نفسه برغيف هو قوته إلى صدقة من أخرج مائة ألف درهم من بعض ماله غيضا من فيض!؟ فرغيف هذا درهمه في الميزان أثقل من مائة ألف هذا. اهــ.
ويجوز كذلك أن تتصدق بالقليل عن أبيك، ونرجو أن ينفعه الله به، فإن الصدقة عن الميت يصله ثوابها، كما نص عليه أهل العلم. واعلم أن الله -تعالى- شكور يقبل الصدقة من عبده، ولو كانت قليلة، فقد روى البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: يا نساء المسلمات: لا تحقرن جارة لجارتها، ولو فرسن شاة.
وأخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال لي النبي -صلى الله عليه وسلم-: لا تحقرن من المعروف شيئا. وفي رواية عند أحمد من حديث أبي جري الهجيمي قال: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله؛ إنا قوم من أهل البادية، فعلمنا شيئا ينفعنا الله -تبارك وتعالى- به، قال: لا تحقرن من المعروف شيئا، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، ولو أن تكلم أخاك، ووجهك إليه منبسط، وإياك وتسبيل الإزار، فإنه من الخيلاء، والخيلاء لا يحبها الله -عز وجل-، وإن امرؤ سبك بما يعلم فيك، فلا تسبه بما تعلم فيه، فإن أجره لك، ووباله على من قال. قال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح.
وثبت في الصدقة عن الميت ما في صحيح البخاري عن سعد بن عبادة: أنه أستأذن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يتصدق عن أمه، فأذن له.
وفي الصحيحين: أن رجلا قال: يا رسول الله؛ إن أمي افتلتت نفسها -أي ماتت بغتة-، وأظنها لو تكلمت لتصدقت، فهل أتصدق عنها؟ قال: نعم.
وقد نقل الاتفاق على وصول الصدقة للميت ابن قدامة في المغني حيث يقول: أي قربة فعلها، وجعل ثوابها للميت المسلم نفعه ذلك ـ إن شاء الله ـ أما الدعاء، والاستغفار، والصدقة، وأداء الواجبات، فلا أعلم فيه خلافا. انتهى.
ومحل هذا إذا كان من وهبك المصروف يسمح بذلك، كما بينا بالفتوى رقم: 425563.
وعلى المسلم أن يجعل أعماله كلها لله -عز وجل-؛ لقول الله -تعالى-: فاعبد الله مخلصا له الدين * ألا لله الدين الخالص {الزمر: 2-3}؛ ولما في الحديث: إن الله لا يقبل من العمل، إلا ما كان له خالصا، وابتغي به وجهه. رواه النسائي، وصححه الألباني.
ولكن ذلك لا يمنع أن تنوي التصدق عن أبيك بما تنفقه، أو أن تهدي له ثواب الصدقة، ولا حرج في قولك: (هذا العمل لعله يفيد أبي المتوفى ... علما أن المبلغ قليل، ولكن هذا الذي أستطيع )
فإن المبلغ القليل ينفعه، ويصله ثوابه -إن شاء الله-؛ لما ذكرنا من النصوص في فضل الصدقة، ولو كان المتصدق به قليلا؛ ولقول ابن قدامة السابق: أما الدعاء، والاستغفار، والصدقة، وأداء الواجبات فلا أعلم فيه خلافا. انتهى.
والله أعلم.