الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن القرآن كلام الله تعالى العليم الخبير، ليس فيه شيء من التناقض إطلاقا، ولو كان فيه شيء من ذلك أو يشبه ذلك لأثاره أعداء هذا الدين الإسلامي قديما، فقد نزل القرآن على محمد -صلى الله عليه وسلم-، والعرب في ذلك الوقت في أوج الاهتمام بالكلام إنشاء ونقدا، ولم يستطيعوا أن يجدوا في القرآن مطعنا رغم رفضهم لرسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- ومحاولاتهم المختلفة أن يظهروا معايب تلك الرسالة ويصدون الناس عنه، نعم قالوا عنه صلى الله عليه وسلم إنه ساحر أو مسحور أو شاعر أو مجنون.
لكن لم يطعنوا في القرآن من حيث أسلوبه وإحكام سبكه؛ بل منصفهم يقر أن هذا الكلام ليس من كلام البشر، وهذا مدون في كتب السير والتاريخ وغيرها، فكيف يأتي الآن من لا يفهم العربية أصلا ولا يتكلمها على وجه صحيح فصيح، ثم ينتقد هذا الكتاب، فيما لم يمكن لأولئك أن ينتقدوه فيه؟!! أظن أن أي عاقل منصف لا يقبل ذلك.
فمشركو العرب المتقدمون أكثر احتراما لعقولهم وعقول من يخاطبونهم من هؤلاء الأنذال المتأخرين، وبعد هذه المقدمة نقول لك وبكل ثقة وصدق: لا تحزن ولا تخش، فالله تعالى حافظ كتابه ودينه ورسالته إلى يوم الدين، ولا بأس أن نبين لك تهافت دعاوى هؤلاء الذين يقولون إن القرآن فيه تناقض تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
* فأما آية يونس (لا تبديل لكلمات الله) فإن أول الآيات: ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون* الذين آمنوا وكانوا يتقون* لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم {يونس:62-63-64}، فإن هذا الوعد لا يبدل ولا يخلف ولا يغير بل هو مقرر مثبت كائن لا محالة، ذلك هو الفوز العظيم.
ولا تناقض في العقل بينها وبين قوله تعالى: وإذا بدلنا آية مكان آية {النحل:101}، فإن معنى الآية: إذا رفعنا آية أو رفعنا الحكم بها وأثبتنا آية أو أثبتنا الحكم بمضمونها مكان الحكم بمضمون الأولى كقوله تعالى: ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها {البقرة:106}.
أما الآيتان (لا مبدل لكلماته) و(ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) فليس فيها تناقض، فآية الكهف (لا مبدل لكلماته) أي لا مغير لها ولا محرف ولا مؤول، أما آية البقرة ( ما ننسخ من آية أو ننسها) فهي في الآيات المنسوخة وهي قليلة جدا والمعنى: ما ننسخ من آية فلا تعمل بها (نأت بخير منها أو مثلها) أي نأت بخير لكم في المنفعة وأرفق بكم أو مثل الذي تركناه.
أما الآيتان (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) و(يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) فلا تعارض بينهما كذلك لأن آية الحجر إخبار من الله بأنه سبحانه حافظ للقرآن من التبديل والتحريف والتغيير، وقد صدق إخباره تعالى فظل القرآن محفوظا من كل ما يمسه مما مس كتب الرسل السابقين كالتوراة والإنجيل.
أما آية الرعد (يمحو الله ما يشاء) فالمحو ليس في القرآن وإنما هو إخبار من الله بأنه وحده المتصرف في شؤون العباد، فإرادته ماضية وقضاؤه نافذ يعدم ما يشاء من الموجودات، ويبقي ما يشاء منها، ويعفو عما يشاء من الوعيد، ويقرر وينسخ ما يشاء من التكاليف، ويبقي ما يشاء. فأين التناقض المزعوم بين هاتين الآيتين؟!!
* وأما قوله تعالى: يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون {السجدة:5} وقوله تعالى: تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة {المعارج:4}، فالآيتان خاليتان من التناقض لأن ما تضمنتاه عروجان لا عروج واحد، ففي آية السجدة، قال ابن كثير: أي يتنزل أمره من أعلى السموات إلى أقصى تخوم الأرض السابعة، كما قال تعالى: الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن. وترفع الأعمال إلى ديوانها فوق سماء الدنيا ومسافة ما بينها وبين الأرض مسيرة خمسمائة سنة أو سمك السماء خمسمائة سنة، ولكن يقطعها في طرفة عين ولذلك قال سبحانه: ألف سنة مما تعدون. وأما آية المعارج: خمسين ألف سنة. فالمراد المسافة بين العرش العظيم إلى قرار الأرض، وذلك مسيرة خمسين ألف سنة، وهذا ارتفاع العرش عن المركز الذي في وسط الأرض السابعة. انتهى من كلام ابن كثير بتصرف.
* وأما الشفاعة المنفية في قوله تعالى: ما من شفيع إلا من بعد إذنه {يونس:3}، وقوله تعالى: ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع {السجدة:4}، هي الشفاعة المعروفة عند الناس وهي أن يشفع الشفيع إلى غيره ابتداء -دون إذن- فتقبل شفاعته، فأراد سبحانه نفي الشفاعة التي يثبتها أهل الشرك الذين يظنون أن للخلق عند الله من القدر أن يشفعوا عنده بغير إذنه، كما يشفع الناس بعضهم عند بعض، قال الله تعالى: وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى {النجم:26}، أما الشفاعة المثبتة فهي التي يأذن الله تعالى بها، ولا يكون العبد مستقلا بالشفاعة بل يكون مطيعا لله تابعا له، ويكون الأمر كله للآمر المسؤول، كما قال تعالى: قل لله الشفاعة جميعا {الزمر:44}، وقوله تعالى: من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه {البقرة:255}، وقوله سبحانه: ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له {سبأ:23}، وأمثال ذلك، فتبين أنه لا تناقض بينهما.
* أما الآيتان (ثلة من الأولين* وقليل من الآخرين) و(ثلة من الأولين* وثلة من الآخرين)، فهذا الاختلاف سببه اختلاف مقام الكلام لأن الله تعالى قسم الناس في سورة الواقعة يوم القيامة إلى ثلاثة أقسام (السابقون السابقون- أصحاب الميمنة - أصحاب المشئمة)، ثم بين مصير كل قسم، فالسابقون السابقون: لهم منزلة المقربون في جنات النعيم، ثم بين أن أصحاب هذه المنزلة فريقان: كثيرون من السابقين الأولين وقليلون من الأجيال المتأخرين.
أما أصحاب الميمنة: فمنزلتهم أدنى من السابقين لذلك كانت درجاتهم أدنى ويشاركهم في هذه المنزلة كثير من الأجيال اللاحقة لأن فرصة العمل بما جعلهم أصحاب اليمين متاحة في كل زمن، وعلى هذا فلا تناقض.
* أما قوله تعالى: إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابؤون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون {المائدة:69}، فمعناه أن من آمن من اليهود والنصارى والصابئين بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به واليوم الآخر ويعمل صالحا فلم يبدل ولم يغير حتى يتوفى على ذلك فله ثواب عمله وأجره عند الله، والآية أيضا تشمل كل من آمن بنبيه في زمانه ولم يدرك غيره، أو من آمن بنبيه وأدرك غيره فآمن به.
وأما آية آل عمران: ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين {آل عمران:85}، فالإسلام هو الدين الحق الذي بعث الله به جميع الأنبياء، والمسلم الحق هو من كان خالصا من شوائب الشرك مخلصا في أعماله مع الإيمان، من أي ملة كان حتى بعث محمد صلى الله عليه وسلم، فمن لم يؤمن به فهو من الكافرين، ولا تشتبه هذه الآيات إلا على فاسد الذوق اللغوي، أو مكابر لا يؤمن بالحق وإن كان في وضوح النهار.
* أما قوله تعالى: فاصفح الصفح الجميل {الحجر:85}، كان نزولها قبل أن يأمر الله نبيه بقتال الكفار، فلما أمره الله بقتالهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله قاتلهم، فقال: أنا نبي الرحمة ونبي الملحمة. فلا تناقض بين آية الحجر وبين قوله تعالى: يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم {التوبة:73}.
* أما قوله تعالى: قل إن الله لا يأمر بالفحشاء {الأعراف:28}، فظاهر لأن الله لا يأمر إلا بصلاح ولا ينهى إلا عن فساد، وقوله تعالى: أمرنا مترفيها ففسقوا فيها {الإسراء:16}، أي أمرناهم بالطاعة ففسقوا فيها بمعصيتهم الله وخلافهم أمره، كما قال ابن عباس حبر الأمة.
* أما قوله تعالى: لا أقسم بهذا البلد {البلد:1}، فـ (لا) نفي صحيح وهي رد لكلام من أنكر البعث ورد لما توهم الإنسان المذكور في هذه السورة المغرور بالدنيا، أي ليس الأمر كما يحسبه، من أنه لن يقدر عليه أحد، ثم ابتدأ القسم سبحانه، وفي قراءة الحسن والأعمش وابن كثير: لأقسم بهذا البلد. من غير ألف بعد اللام إثباتا للقسم فلا تعارض بينها وبين قوله تعالى: وهذا البلد الأمين {التين:3}.
* وأما قوله تعالى: بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما {النساء:138}، ففيها وعيد شديد للمنافقين فتضمن ذلك زجرهم عن نفاقهم، ولا تناقض بين كون القرآن الكريم مبينا وكونه متشابها؛ فإن المعنى متشابهات في التلاوة، مختلفات في المعنى، كما قال جل ثناؤه (وأتوا به متشابها) {البقرة:25}، يعني في المنظر مختلفا في المطعم، وكما أخبر عن بني إسرائيل قولهم (إن البقر تشابه علينا) {البقرة:70}، يعنون بذلك تشابه علينا في الصفة، وإن اختلفت أنواعه.
فالقرآن العظيم يشبه بعضه بعضا في الحسن والحكمة ويصدق بعضه بعضا، وكل هذا لا يناقض كونه عربيا مبينا إلا عند أعاجم اللسان الذين لا يجيدون إلا الرطانة والتهتهة، الجهال بلغة التنزيل المعجز الذي أعجز الإنس والجن.
وفي الختام ننصح الأخ السائل بأن لا يجادل أهل الشبه من أعداء الإسلام إذا لم يكن لديه من العلم ما يرد به باطلهم، وليعرض عن ذلك، وليعتن بطلب علم الشريعة، وقد قيض الله لأهل الباطل من يبين زيف باطلهم من العلماء الراسخين.
والله أعلم.