دلالة وجود تفاسير كثيرة لكتاب الله تعالى

0 529

السؤال

من المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفسر جل القرآن، ولم يفعل ذلك صحابته الكرام، واليوم نرى تفاسير لجل القرآن، قد تتعارض في كثير الأحيان، وقد تصل إلى القول في الغيبيات، وفي تفسير الحروف التي في أوائل السور، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من قال في القرآن برأيه، أو بما لا يعلم، فليتبوأ مقعده من النار)، فما حكم هذا الكم الهائل من التفاسير، التي تضرب بعضها بعضا، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض؛ بهذا هلك من كان قبلكم)؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعـد:

فلا شك أن الله تعالى أنزل كتابه على نبيه صلى الله عليه وسلم؛ ليتلوه المسلمون، ويتدبروا معانيه، ويعملوا بمحكمه، ويؤمنوا بمتشابهه، كما قال تعالى: الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته {البقرة:121}، وقال تعالى: كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب {ص:29}.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبينه لأصحابه، ويفسر لهم ما احتاجوا إليه من تفسيره، كما أمره الله تعالى بقوله: وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم {النحل:44}.

وقد كان صلى الله عليه وسلم يشجع أصحابه على فهم القرآن، ويدعو لهم بالتفقه في الدين، وعلم التفسير والتأويل، ففي صحيح مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب -رضي الله عنه-: أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قال: قلت الله ورسوله أعلم، قال: يا أبا المنذر، أتدري أي آية معك من كتاب الله أعظم؟ قلت: الله لا إله إلا هو الحي القيوم. فضرب في صدري، وقال: والله، ليهنك العلم أبا المنذر. وفي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن عباس: اللهم فقهه في الدين. وفي رواية غيره: وعلمه التأويل. فكان ابن عباس -رضي الله عنهما- مدرسة للعلوم الشرعية، ولعلم التفسير خاصة، الذي هو أصل المعارف الشرعية.

ومن مدرسته تخرج مجاهد بن جبر، الذي قال عنه ابن كثير، وغيره من أهل العلم: إنه كان آية في التفسير.. ونقل عنه أنه قال: عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات، من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية، وأسأله عنها. وقال عنه سفيان الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد، فحسبك به.

وهكذا كان أصحاب ابن عباس، وغيرهم من علماء السلف، فكان سعيد بن جبير، وعكرمة مولى ابن عباس، وعطاء، والحسن، ومسروق، وسعيد بن المسيب، وأبو العالية، والربيع، وقتادة.. وغيرهم من التابعين، وتابعيهم، يفسرون القرآن، فكانوا يفسرون القرآن بالقرآن، وبالسنة، وبما جاء عن الصحابة الذين هم أعلم الناس بالوحي؛ لأنهم شاهدوا نزوله، وعاشوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهم أعلم بلغة العرب التي نزل بها القرآن.

وهذه من أهم أصول التفسير، ومنهجه الذي سار عليه أئمة التفسير، وعلماء الأمة بعد ذلك، وقد قال ابن عباس: التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله تعالى.  وقال ابن كثير: فالواجب على العلماء الكشف عن معاني كلام الله، وتفسير ذلك، وطلبه في مظانه، وتعلمه، وتعليمه، كما قال تعالى: وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه. وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذون عشر آيات، ولا يأخذون العشر الأخرى حتى يأخذوا ما في هذه من العمل، والعلم، كما روى أصحاب السنن عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن ابن مسعود، وغيره.

إذا علمنا هذا؛ فلنعلم أن التفسير لا يعد تفسيرا مقبولا ومعتبرا، إلا إذا روعيت فيه أصول التفسير، التي استمدها علماء الإسلام من الكتاب، والسنة، وعمل الصحابة، وبإمكانك أن تطلع عليها في مقدمة كتب التفسير المعتبرة، مثل تفسير الطبري، والقرطبي، وابن كثير، وابن عاشور، وفي مقدمة أصول التفسير لشيخ الإسلام ابن تيمية.

ولا ينبغي أن ننزعج، أو تضيق صدورنا إذا رأينا خلافا بين الأئمة والعلماء، فيما يكون الخلاف فيه مقبولا، فقد اختلف الصحابة، ومن بعدهم في الفروع، وفيما يحتمل وجوها عدة، وهذا الاختلاف رحمة، وتوسعة، وإثراء للتفسير، والفقه، الإسلامي؛ ولهذا قال العلماء: اختلاف الأئمة رحمة واسعة، وإجماعهم حجة قاطعة.

وربما كان الخلاف بينهم خلافا لفظيا، وهذا هو الأكثر في تفسير السلف.

والقرآن الكريم بحر زاخر، حوى من معارف الأولين والآخرين، وعلوم الدين والدنيا ما يحتاج إليه الناس لهدايتهم، وإصلاح حالهم.

ولن تنتهي عجائبه، إلى أن يرث الله الأرض، ومن عليها؛ لأنه معجزة الإسلام الخالدة، وخاتمة وحي الله تعالى إلى عباده، فلا يمكن أن يكتفى بتفسيره في عصر من العصور، أو مصر من الأمصار.. فكل أهل عصر، أو أهل مصر، يغرفون من بحره، حسب علمهم، وفهمهم، وما يهتمون به من معارف، ويستخرجون من كنوزه ما يفتح الله تعالى به عليهم؛ ولهذا نلاحظ تفسير الفقهاء، وتفسير أهل اللغة والأدب، وتفسير أهل الدعوة والإصلاح، وتفسير أهل التربية والأخلاق.

وفي العصر الحديث نجد التفسير في الإعجاز العلمي للقرآن، فالكل يغرف من بحره قدر إنائه، وحسب تخصصه.

وأما قول السائل الكريم "من قال في القرآن .. الحديث رواه الترمذي، والنسائي، فقال عنه أهل العلم: إن ذلك في من قال فيه بما سنح له في وهمه، وخطر على باله، من غير استدلال عليه بالأصول، وإن من استدل على حكم، واستنبط، فحمله على الحكم المتفق على معناه، فهو ممدوح مأجور، وهو ممن قال الله تعالى فيهم: لعلمه الذين يستنبطونه منهم. قاله الجصاص.. وقال عنه ابن كثير: لأنه تكلف ما لا علم له به، وسلك غير ما أمر به. وقال عنه القرطبي: من قال في القرآن قولا يعلم أن الحق غيره، فليتبوأ مقعده ...

والذي لا شك أن الصحابة، وغيرهم من السلف الصالح، كانوا يفسرون القرآن بما ظهر لهم، وفق المنهج الذي أشرنا إلى بعض قواعده، فقد روى البخاري، وغيره عن أبي جحيفة أنه قال لعلي -رضي الله عنه-: هل عندكم شيء من الوحي غير ما في كتاب الله؟ قال لا، والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، لا أعلمه إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن..

وقد ذكرنا دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس.

وأما حديث: ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض، فقد رواه الإمام أحمد، وصححه الأرناؤوط، ولكنه جاء في سياق النهي عن الخوض في القدر، وليس في النهي عن التفسير، ونصه -كما في المسند- عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، والناس يتكلمون في القدر، قال: وكأنما تفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب، فقال لهم: ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض، بهذا هلك من كان قبلكم.

والحاصل؛ أن الصحابة كانوا يفسرون القرآن، بل كانوا يقرؤون عشر آيات، ولا يتجاوزونها حتى يعلموا معناها، وكان السلف يفسرون القرآن، ولكن ذلك كان مضبوطا بأصول ثابتة، ومنهج واضح، لا يجوز لمن لم يتوفر فيه أن يقحم نفسه في تفسير القرآن، وهو المقصود بالوعيد المذكور.

واما هذا الكم الهائل من التفاسير، فهو ثروة عظيمة، ينبغي للعلماء أن يغوصوا فيها، ويستخرجوا دررها، ويصححوا ما فيها من أخطاء، فكل إنسان يؤخذ من قوله ويترك، إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة