الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن ما ذكره الله تعالى في الآية الواردة في سؤال السائل وهي قوله سبحانه: وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا {النساء: 157}.
وقد كذبوا بأنهم قتلوه وافتخروا بقتله -على زعمهم- وذكروه بالرسالة استهزاء، لأنهم ينكرونها ولا يعترفون بأنه نبي، كما قال كفار قريش لمحمد -صلى الله عليه وسلم-: وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون {الحجر: 6}، وكما قال فرعون: قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون {الشعراء: 27}.
وقد كذب الله تعالى اليهود ومن وافقهم في زعمهم أن المسيح -عليه السلام- قتله اليهود، فقال عز من قائل: وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم. وكما قال تعالى: إذ قال الله ياعيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون {آل عمران: 55}.
فقد قصد اليهود حقيقة قتل عيسى -عليه السلام-، فألقى الله تعالى شبهه على إنسان آخر، وفي هذا عدة وجوه منها:
1- أن اليهود لما علموا أنه حاضر في بيت فلان مع أصحابه، أمر (يهوذا) رأس اليهود رجلا من أصحابه يقال له (طيطايوس) أن يدخل على عيسى -عليه السلام- ويخرجه ليقتله، فلما دخل عليه أخرج الله عيسى -عليه السلام- من سقف البيت، وألقى على ذلك الرجل شبه عيسى فظنوه هو فصلبوه وقتلوه.
2- وكلوا بعيسى -عليه السلام- رجلا يحرسه، وصعد عيسى -عليه السلام- في الجبل ورفع إلى السماء، وألقى الله شبهه على ذلك الرقيب فقتلوه وهو يقول: لست عيسى.
3- كان رجلا يدعي أنه من أصحاب عيسى -عليه السلام- وكان منافقا، فذهب إلى اليهود ودلهم عليه، فلما دخل مع اليهود لأخذه ألقى الله تعالى شبهه عليه فقتل وصلب.
4- أن اليهود لما هموا بأخذه وكان عيسى -عليه السلام- مع عشرة من أصحابه فقال لهم: من يشتري الجنة بأن يلقى عليه شبهي، فقال واحد منهم أنا، فألقى الله شبه عيسى عليه فأخرج فقتل، ورفع الله عيسى إلى السماء.
وقيل في معنى شبه لهم: إن اليهود لما قصدوا عيسى -عليه السلام- ليقتلوه رفعه الله تعالى إلى السماء، فخاف رؤساء اليهود من وقوع الفتنة من عوامهم فأخذوا إنسانا وقتلوه وصلبوه، ولبسوا على الناس أنه المسيح، والناس ما كانوا يعرفون المسيح إلا بالاسم لأنه كان قليل المخالطة للناس.
وقد ذكر هذه الوجوه الرازي في تفسيره. ولذلك قال تعالى: (وما قتلوه يقينا) أي وما قتلوه وهم على يقين بأن المقتول هو المسيح -عليه السلام-، بل كانوا شاكين في ذلك. لأن (يقينا) حال من عيسى -عليه السلام-. وقد أخبر الله تعالى محمدا -عليه الصلاة والسلام- بأنهم لم يقتلوه حقيقة، بل رفعه الله تعالى إليه.
والذين اختلفوا في عيسى هم اليهود والنصارى معا، وذلك أن اليهود لما قتلوا الشخص المشبه به كان الشبه على وجهه، ولم يلق عليه شبه جسد عيسى، فلما قتلوه ونظروا إلى بدنه قالوا: الوجه وجه عيسى والجسد جسد غيره.
قال الرازي في تفسيره: وقال السدي: إن اليهود حبسوا عيسى مع عشرة من الحواريين في بيت، فدخل عليه رجل من اليهود ليخرجه ويقتله، فألقى الله شبه عيسى -عليه السلام- على ذلك الرجل ورفع إلى السماء، فأخذوا ذلك الرجل وقتلوه على أنه عيسى -عليه السلام-، ثم قالوا إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا، وإن كان صاحبنا فأين عيسى؟ اهـ.
والنصارى كذلك مختلفون، مع اتفاقهم على قتله إلا طائفة قليلة منهم. فقال بعضهم: إن المسيح صلب من جهة ناسوته لا من جهة لاهوته. وقال بعضهم: وقع الصلب والقتل على عيسى من جهة ناسوته ولاهوته. وقيل: وصل إلى اللاهوت بالإحساس والشعور لا بالمباشرة. وقالت طائفة: القتل والصلب وقعا بالمسيح الذي هو جوهر متولد من جوهرين. وكلهم قد كذب بالحق، واتبع ظنه وهواه: ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما [النساء: 157- 158].
وقبل قيام الساعة ينزل عيسى -عليه السلام- حكما عدلا يحكم بشريعة الإسلام، قال صلى الله عليه وسلم: والذي نفس بيده، ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد. متفق عليه، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ليس بيني وبينه نبي -يعني عيسى -عليه السلام-، وإنه نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوه: رجل مربوع إلى الحمرة والبياض بين ممصرتين، كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل، فيقاتل الناس على الإسلام، فيدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، ويهلك المسيح الدجال، فيمكث في الأرض أربعين سنة، ثم يتوفى، فيصلي عليه المسلمون. رواه أبو داود.
والله أعلم.