الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإنه لا خلاف أن القرآن نزل من الله تعالى بواسطة جبريل -عليه السلام- إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأن الله كان ينزل جبريل به شيئا فشيئا، وأن جبريل سمعه منه، وأن جبريل ما كان ينزل إلا بأمر الله، لقوله تعالى: قل نزله روح القدس من ربك {النحل:102} وقوله تعالى: قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله {البقرة:97} .
ولقوله تعالى: فلا أقسم بما تبصرون * وما لا تبصرون * إنه لقول رسول كريم * وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون * ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون* تنزيل من رب العالمين {الحاقة: 38-43}. وقوله تعالى: تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم {الزمر: 1}. وقوله: حم * تنزيل من الرحمن الرحيم * كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون {فصلت:1- 3}، وقوله تعالى: إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز* لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد {فصلت:41-42}. وقوله تعالى: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون {الحجر:9}. وقوله تعالى: إنه لقرآن كريم * في كتاب مكنون * لا يمسه إلا المطهرون * تنزيل من رب العالمين {الواقعة:77-80}، وقوله تعالى: تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا {طه:4}، وقوله تعالى: وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين {الشعراء:192- 195}.
وقد قرأ حمزة والكسائي وابن عامر وشعبة نزل به الروح بتشديد الزاي.
فقد أكد -جل وعلا- في هذه الآيات الكريمة أن هذا القرآن العظيم تنزيل رب العالمين، وأنه نزل به الروح الأمين الذي هو جبريل على قلب نبينا -صلى الله عليهم- وسلم ليكون من المنذرين به.
ولا يبعد أن يكلم الله جبريل بالآيات المراد نزولها وقت تنزيلها كما يكلمه بما قضى به من الأمور لما في الحديث عند الطبراني مرفوعا: إذا تكلم الله بالوحي أخذت السماء رجفة شديدة من خوف الله، فإذا سمع أهل السماء بذلك صعقوا وخروا سجدا، فيكون أولهم يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، فينتهي به على الملائكة، كلما مر بسماء سأله أهله ماذا قال ربنا، قال الحق، فينتهي به حيث أمر.
وروى البخاري عن عائشة أنها قالت: والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحيا يتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى. اهـ.
وقد ثبت النقل عن السلف أن جبريل سمع القرآن من الله تعالى، قال شيخ الإسلام في الفتاوى: ومذهب سلف الأمة وأئمتها وخلفها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سمع القرآن من جبريل، وجبريل سمعه من الله -عز وجل. اهـ.
وقال -أيضا- في موضع آخر: والنبي سمعه من جبريل، وهو الذي نزل عليه به، وجبريل سمعه من الله تعالى كما نص على ذلك أحمد وغيره من الأئمة، قال تعالى: قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله، وقال تعالى: نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين، وقال تعالى: وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون * قل نزله روح القدس من ربك بالحق، فأخبر سبحانه أنه نزله روح القدس وهو الروح الأمين وهو جبريل من الله بالحق.... اهـ.
وقال ابن حجر في فتح الباري: والمنقول عن السلف اتفاقهم على أن القرآن كلام الله غير مخلوق، تلقاه جبريل عن الله، وبلغه جبريل إلى محمد -عليه الصلاة والسلام-، وبلغه صلى الله عليه وسلم إلى أمته. اهـ.
وأما ما روي عن ابن عباس من نزول القرآن جملة إلى السماء الدنيا، ثم كان جبريل ينزل به شيئا فشيئا، فإنه نقله أغلب المفسرين محتجين به، ورواه بعض المحدثين وصححوه ولم نعثر على من طعن فيه، فقد روى النسائي في سننه، والحاكم في مستدركه، وابن أبي شيبة في مصنفه، والبيهقي في الأسماء والصفات من طريق حسان بن حريث عن سعيد بن جبير عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: فصل القرآن من الذكر فوضع في بيت العزة من السماء الدنيا، فجعل جبريل ينزل به على النبي -صلى الله عليه وسلم-. والحديث صححه الحاكم، ووافقه الذهبي، والسيوطي في الإتقان.
وقال السيوطي في الإتقان: وأخرج الطبراني من وجه آخر عن ابن عباس قال أنزل القرآن في ليلة القدر في شهر رمضان إلى سماء الدنيا جملة واحدة، ثم أنزل نجوما إسناده لا بأس به، وأخرج الطبراني والبزار من وجه آخر عنه قال: أنزل القرآن جملة واحدة حتى وضع في بيت العزة في السماء الدنيا ونزله جبريل على محمد بجواب كلام العباد وأعمالهم.
وأخرج ابن أبي شيبة في فضائل القرآن من وجه آخر عنه: دفع إلى جبريل في ليلة القدر جملة واحدة فوضعه في بيت العزة، ثم جعل ينزله تنزيلا. اهـ.
وذكر السيوطي عن ابن كثير أنه حكى الإجماع على أنه نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا.
وقال الحافظ في فتح الباري عند شرح حديث لبث النبي -صلى الله عليه وسلم- بمكة عشر سنين ينزل عليه القرآن وبالمدينة عشر سنين: يؤخذ من هذا الحديث أنه نزل مفرقا ولم ينزل جملة واحدة، ولعله أشار إلى ما أخرجه النسائي وأبو عبيد والحاكم من وجه آخر عن ابن عباس قال: أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر، ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة وقرأ: وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث الآية، وفي رواية للحاكم والبيهقي في الدلائل، فرق في السنين، وفي أخرى صحيحة لابن أبي شيبة والحاكم أيضا: وضع في بيت العزة في السماء الدنيا، فجعل جبريل ينزل به على النبي صلى الله عليه وسلم. وإسناده صحيح. انتهى بتصرف يسير.
وقال ابن كثير في تفسير آية شهر رمضان...: يمدح تعالى شهر الصيام من بين سائر الشهور، بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم فيه، وكما اختصه بذلك، قد ورد الحديث بأنه الشهر الذي كانت الكتب الإلهية تنزل فيه على الأنبياء، قال الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا عمران أبو العوام، عن قتادة، عن أبي المليح، عن واثلة -يعني ابن الأسقع-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان. وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان"...اهـ.
ثم قال: وأما الصحف والتوراة والزبور والإنجيل، فنزل كل منها على النبي الذي أنزل عليه جملة واحدة، وأما القرآن فإنما نزل جملة واحدة إلى بيت العزة من السماء الدنيا، وكان ذلك في شهر رمضان في ليلة القدر منه، كما قال تعالى: إنا أنزلناه في ليلة القدر، وقال: إنا أنزلناه في ليلة مباركة، ثم نزل بعده مفرقا بحسب الوقائع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، هكذا روي من غير وجه عن ابن عباس، كما قال إسرائيل عن السدي، عن محمد بن أبي المجالد، عن مقسم، عن ابن عباس: أنه سأل عطية بن الأسود فقال: وقع في قلبي الشك، قول الله تعالى: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، وقوله: إنا أنزلناه في ليلة مباركة، وقوله: إنا أنزلناه في ليلة القدر، وقد أنزل في شوال، وفي ذي القعدة، وفي ذي الحجة، وفي المحرم وصفر وشهر ربيع، فقال ابن عباس: إنه أنزل في رمضان في ليلة القدر وفي ليلة مباركة جملة واحدة، ثم أنزل على مواقع النجوم ترتيلا في الشهور والأيام، رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه وهذا لفظه، وفي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أنزل القرآن في النصف من شهر رمضان إلى سماء الدنيا، فجعل في بيت العزة، ثم أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة لجواب كلام الناس، وفي رواية عكرمة عن ابن عباس، قال: نزل القرآن في شهر رمضان في ليلة القدر، على هذه السماء الدنيا جملة واحدة، وكان الله يحدث لنبيه ما يشاء ولا يجيء المشركون بمثل يخاصمون به إلا جاءهم الله بجوابه، وذلك قوله: وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا * ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا. اهـ.
وقال ابن كثير في موضع آخر: وقرآنا فرقناه، أما قراءة من قرأ بالتخفيف فمعناه فصلناه من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا، ثم نزل مفرقا منجما على الوقائع إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ثلاث وعشرين سنة، قاله عكرمة عن ابن عباس. اهـ.
وقال القرطبي في التفسير: ولا خلاف أن القرآن أنزل من اللوح المحفوظ ليلة القدر ـ على ما بيناه ـ جملة واحدة، فوضع في بيت العزة في سماء الدنيا، ثم كان جبريل صلى الله عليه وسلم ينزل به نجما نجما في الأوامر والنواهي والأسباب، وذلك في عشرين سنة. وقال ابن عباس: أنزل القرآن من اللوح المحفوظ جملة واحدة إلى الكتبة في سماء الدنيا، ثم نزل به جبريل عليه السلام نجوما ـ يعني الآية والآيتين ـ في أوقات مختلفة في إحدى وعشرين سنة. اهـ.
وقد أوضح شيخ الإسلام ابن تيمية التوفيق بين أثر ابن عباس وما ثبت من سماع جبريل القرآن من الله، فقال في مجموع الفتاوى بعد كلام طويل في إثبات أن القرآن منزل من الله: وهذا لا ينافى ما جاء عن ابن عباس وغيره من السلف في تفسير قوله: إنا أنزلناه في ليلة القدر، أنه أنزله إلى بيت العزة في السماء الدنيا ثم أنزله بعد ذلك منجما مفرقا بحسب الحوادث، ولا ينافى أنه مكتوب في اللوح المحفوظ قبل نزوله كما قال تعالى: بل هو قرآن مجيد * في لوح محفوظ ، وقال تعالى: إنه لقرآن كريم * في كتاب مكنون * لا يمسه إلا المطهرون، وقال تعالى: كلا إنها تذكرة * فمن شاء ذكره * في صحف مكرمة * مرفوعة مطهرة * بأيدي سفرة * كرام بررة، وقال تعالى: وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم، فإن كونه مكتوبا في اللوح المحفوظ وفي صحف مطهرة بأيدي الملائكة لا ينافي أن يكون جبريل نزل به من الله سواء كتبه الله قبل أن يرسل به جبريل أو بعد ذلك، وإذا كان قد أنزله مكتوبا إلى بيت العزة جملة واحدة في ليلة القدر فقد كتبه كله قبل أن ينزله. اهـ.
والله أعلم.