الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الجميع كان يثني على جمالي في الصغر.. هل تعرضت للحسد؟

السؤال

السلام عليكم.

هل يوجد حسد من الصغر؟ أنا مثلاً لا أقتنع بفكرة أن يوجد شخص يحسدني على حياتي، ولا على شكلي الآن، نصحني شخص بالرقية الشرعية، فقلت: إني لا أمتلك الحياة ولا الشكل الذي يمكن لأحد أن يحسدني عليه، فأجاب: قد يكون الحسد حدث منذ الصغر، ومنذ سنوات عديدة.

الأمر بدأ يشغل تفكيري بالفعل، فأنا كنت جميلة والجميع يثني على جمالي بالصغر، ولكن مع مرور الوقت بدأ شكلي يتغير حتى بدأت أشبه الغول، وحياتي أصبحت جحيماً، وتعرضت لأحداث كثيرة بشعة، وضغوطات كثيرة لا أحد يتحملها، ثم بالأخير حدث لي انهيار عصبي منذ سنتين وأصبحت أذهب للطبيب النفسي، وشخصت بمرض نفسي، وحتى هذه اللحظة أنا أعاني! هل بالفعل قد يكون الحسد منذ الصغر؟ وماذا أفعل؟ هل أستمع لرقية أم ماذا؟

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ هدى حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

مرحباً بك -أختنا الكريمة-، ورداً على استشارتك أقول:

يجب أن يكون موقفنا من النصوص الشرعية التسليم والاستسلام، مع أهمية إدراك الفهم الصحيح الذي أراده الله سبحانه وتعالى وأراده رسوله عليه الصلاة والسلام، ولا ينبغي للمؤمن أن يحكم العقل في هذا المجال فيقول مثلاً عقلي لا يتقبل هذا أو أنا غير مقتنع، وإلا فما معنى الإسلام؟ أليس التسليم والاستسلام؟ يقول ربنا سبحانه: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).

الحسد وردت فيه النصوص الشرعية المتواترة، قال تعالى وهو يصف اليهود: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ)، وقال تعالى: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ)، وقال عليه الصلاة والسلام: (ما يمنع أحدكم إذا رأى من أخيه ما يعجبه في نفسه وماله فليُبَرِّك عليه، فإن العين حق)، وفي حديث آخر (إذا رأى أحدكم من نفسه أو ماله أو أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة، فإن العين حق)، وما العين إلا نوع من الحسد.

الحاسد قد يحسد الصغير وقد يحسد الكبير ولا يشترط في الحاسد أن يرى المحسود، بخلاف العين فإن العائن لا يصيب الشخص إلا إذا رآه، والعائن قد يصيب نفسه أو ولده أو ماله، قال تعالى: (وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّه)، فما أمر الله بأن يقول الرجل ما شاء الله لا قوة إلا بالله إلا لما للعين من تأثير فيؤثر على الزرع والثمر، فكيف على البشر؟!

قال العلامة ابن كثير: قال بعض السلف: من أعجبه شيء من ماله أو ولده فليقل ما شاء الله لا قوة إلا بالله.

ثبتت الأحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الإصابة بالعين، فمن ذلك ما في الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمرني أن أسترقي من العين"، وأخرج مسلم وغيره عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا)، وفي حديث أسماء بنت عميس قالت: يا رسول الله، إن بني جعفر تصيبهم العين، أفنسترقي لهم؟، قال: (نعم، فلو كان شيء سابق القدر لسبقته العين).

قال نبينا عليه الصلاة والسلام كما رواه مسلم من حديث جابر -رضي الله عنه-: (العين تدخل الرجل القبر، وتدخل الجمل القدر)، فانظري كيف أن العين تمرض الإنسان والحيوان وتؤدي بالرجل إلى الموت وبالحيوان إلى أن يتداركه أهله بالذبح خوفا من الهلاك.

الحسد قد ينشأ مع الإنسان من صغره، فمثلا إنسان عقيم لم يرزق بولد، فلما رزق الله والديك بك وذكر له ذلك أصابك بالحسد، وهذا من حيث الإمكان ممكن جدا، والحسد لا يلزم أن يكون للشخص حياة طيبة أو جسم وقوام، فقد يكون بسبب جمال الشعر أو العين أو لون البشرة وهكذا.

لقد شرع لنا نبينا عليه الصلاة والسلام أن نرقي أنفسنا يوميا بالمعوذات وشيء من الأدعية المأثورة وخاصة عند النوم، وأما عند حصول الوجع أو تغير في الحياة فيتأكد ذلك، والحسد والعين لا يمكن للطبيب أن يكتشفه لا بالتحاليل ولا بالكشافات التلفزيونية، وعلاجه يكون بأحد طريقين إما الرقية أو أن يطلب من الشخص الذي يشك فيه أن يغتسل ثم يغسل المحسود أو المعيون بذلك الماء.

في مسند الإمام أحمد عن سهل بن حنيف أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خرج وسار معه نحو مكة حتى إذا كانوا بشعب الخرار (اسم موضع) من الجحفة اغتسل سهل بن حنيف وكان رجلاً أبيض حسن الجسم والجلد، فنظر إليه عامر بن ربيعة أحد بني عدي بن كعب وهو يغتسل فقال: ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة، فلبط سهل، فأتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقيل: يا رسول الله، هل لك في سهل، والله ما يرفع رأسه، قال: هل تتهمون فيه من أحد؟، قالوا: نظر إليه عامر بن ربيعة، فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عامراً فتغيظ عليه، وقال: علام يقتل أحدكم أخاه، هلا إذا رأيت ما يعجبك برَّكت، ثم قال له: اغتسل له، فغسل وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره في قدح ثم صب ذلك الماء عليه، يصبه رجل على رأسه وظهره من خلفه ثم يكفأ القدح وراءه، ففعل به ذلك، فراح سهل مع الناس ليس به بأس، فانظر كيف أثرت العين على سهل حتى أصيب بما يشبه بالشلل.

أنصحك أن تبحثي عن راق أمين وثقة لتشخيص حالتك، فإن تبين أنك قد أصبت بالعين أو الحسد وكنت تتهمين أشخاصا محددين، فالعلاج الناجع في مثل هذه الحال أن يطلب منهم أن يغتسلوا كما مر في الحديث، وإن لم تكوني تتهمين أحداً بعينه، فعليك بالرقية حتى تبرئي -بعون الله تعالى-، ويمكنك أن ترقي نفسك بما تيسر من الآيات القرآنية والأدعية المأثورة، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (لا رقية إلا من عين أو حمة)، والحمة اللدغة، وجاء جبريل يرقي النبي -صلى الله عليه وسلم- فيقول: ( باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد، الله يشفيك، باسم الله أرقيك).

قلت في استشارتك أنك كنت جميلة والجميع يثني على جمالك حين كنت صغيرة ثم تغير شكلك مع مرور الوقت حتى صرت تشبهين الغول، وهذا التشبيه فيه مبالغة -والله أعلم-، لكن حدوث التغير بشكل ملفت يدل على أن ثمة عملاً هو الذي أثر على ذلك، خاصة إن كانت أمك وأخواتك وخالاتك على مستوى من الجمال.

عدم إصغائك للنصح بأهمية الرقية وطول الزمن الذي مر تسبب في تفاقم الأمر، وتسبب لك في كثير من الأعراض، كالانهيار العصبي، والحالة النفسية، ومع هذا فعليك أن تبدئي فورا بالرقية، لكن بشرط أن تبحثوا عن راق أمين وثقة ويكون ذلك بإشراف أحد محارمك، وأنا على يقين إن كنت مصابة بالحسد أو العين أنك ستشعرين بالتحسن، وسوف تتغير حياتك -بإذن الله تعالى-.

اجتهدي في تقوية إيمانك من خلال كثرة الأعمال الصالحة، فذلك من أسباب جلب الحياة الطيبة، وأكثري من تلاوة القرآن الكريم، وحافظي على أذكار اليوم والليلة، فذلك سيجلب لقلبك الراحة والطمأنينة، وارضي بما قضاه الله وقدره، فإن ذلك يجلب لك رضوان الله، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط.

الزمي الاستغفار، وأكثري من الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فذلك من أسباب تفريج الهموم وتنفيس الكروب، ففي الحديث: (مَنْ لَزِمَ الِاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)، وقال لمن قال له أجعل لك صلاتي كلها: (إِذًا تُكْفَى هَمَّكَ وَيُغْفَرُ لَكَ ذَنْبُكَ).

تضرعي بالدعاء بين يدي الله تعالى وأنت ساجدة، وتحيني أوقات الإجابة وسلي الله تعالى أن يشفيك فهو سبحانه بيده الشفاء لا بيد غيره، وربنا سبحانه الشافي والمعافي وإذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون.

أكثري من دعاء ذي النون (لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَاْنَكَ إِنِّيْ كُنْتُ مِنَ الْظَّاْلِمِيْنَ)، فما دعا به أحد في شيء إلا استجاب الله له، يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الحُوتِ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ).

نسعد بتواصلك، ونسأل الله تعالى أن يسمعنا عنك خيرا.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً