الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أخطأت في حق أمي وهددتها بالسكين!!!

السؤال

السلام عليكم

أنا أعزب، أعيش مع أمي ولا أطلب منها شيئاً، ولا أريد منها غير وجبة طعام، وهذا هو سبب المشاكل بيننا على مدى سنوات، تلبي كل احتياجات إخوتي وأبنائهم، ويأخذون منها، وأنا لا.

أشعر بالظلم الشديد، وسألتها كثيراً: ماذا فعلت لتعامليني بهذه الطريقة؟ رغم أنني أتجنب الإساءة إليها، وإذا أرادت مني شيئاً مادياً لا أتأخر، كلمت إخوتي وأخوالي وسألتهم، ماذا فعلت كي ألقى هذا الظلم؟ لا إجابة! ومع الضغط الشديد تجرأت عليها، وللأسف أخرجتها من البيت بعد أن أمسكت لها السكين، وقلت لها: لا أريد أن أراكِ، وقد صبرت عليك كثيراً.

لا أعرف كيف حدث مني ذلك؟! ولكني كنت أتوقعه، وأخاف منه، بعد أكثر من 10 سنوات من الإحساس بالظلم، فأنا كثيراً لا أجد ما آكله رغم توفر المال، فهي لا تطبخ إلا مرتين في الأسبوع، وأنا لا آكل إلا وجبة فقط، أعرف أنني أخطأت في حقها، ولكني أردت أن أجد من أكلمه لينصحني.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ سائل حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

أهلاً بك في موقعك إسلام ويب، ونسأل الله أن يغفر لك هذا الجرم الكبير، وأن يعفو عنك، إنه جواد كريم.

أخي: لا نخفيك سراً لقد صدمنا من المكتوب، حتى إنا أعدنا القراءة مرتين وثلاثاً؛ فقط لنتأكد من المكتوب، هل حقاً المسألة التي شغلتك وأرهقتك وأشعرتك بالظلم، وقمت على إثرها بطرد أمك من بيتها هي، لا من بيتك، من أجل أنها لم تعد لك طعاماً؟!

- هل حقاً قمت برفع سكين على المرأة التي أنجبتك وأرضعتك وهيأتك حتى صرت رجلاً؟!
- هل هذا حق الإحسان إليها بعد كل تلك السنوات التي قضتها في تربيتك وإخوانك؟!
- هل هذا هو جزاؤها عندك؟!
- هل أمنت ألا يغضب الله عليك لغضبها فتهلك؟!
- هل وجدت القدرة على طردها، ولم تجد القدرة على تجهيز طعامك بنفسك؟!
- هل تظن أنها وفي سنها مطالبة بالإحسان إليك وتجهيز طعامك؟!

إننا ونحن نكتب لك هذا الكلام، نتذكر ما قرأناه أمس، عن شاب عشريني ذهب بأمه إلى طبيبة لعلاجها، ولاحظت الطبيبة أن الأم بها جنون، وأنها تضرب ولدها وتسبه، وتخرج من المشفى وتصرخ، وهو دائم الضحك معها، والتحنن إليها، والود لها، سألته الطبيبة عن قصتها، فأخبرها أنها أمه -وهي مجنونة- كان يرعاها أحد أخواله، حتى توفي الخال وهو في عمر الحادية عشرة (طفل) ومن يومها وهو يرعى أمه ويخدمها، ويطبخ لها ويطعمها، وأوقف حياته على برها، سألته الطبيبة: وهل تعرفك؟ قال: لا، هي لا تعرف أني ابنها، ولكني أعرف أنها أمي! تخيل لو كنت مكانه أنت، وكانت أمك مجنونة، وكنت مطالباً أنت بفعل كل ما يخصها، ماذا كنت تفعل؟

يا أخي: لقد أخطأت وتماديت، أخطأت حين ظننت أن من واجبها خدمتك، والحق أن خدمتها هي واجبة عليك، أخطأت حين عددت هذا ظلماً عليك، والحق أن هذا كان ظلماً منك، أخطأت حين فعلت ما فعلت، ومع هذا نحن ندرك من طيات كلامك أنك إنسان طيب، وأنك نادم على ما قد حدث منك، وأنك ما تواصلت إلا لمعرفة الطريق الصحيح الذي يجب أن تسلكه، ونحن هنا لنساعدك أخي، فاستمع بارك الله فيك:

أولاً: اعلم أن العقوق من أعظم الكبائر، يقول صلى الله عليه وسلم: (أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الكَبَائِرِ؟ ثَلَاثًا، قالوا: بَلَى يا رَسُولَ اللَّهِ، قالَ: الإشْرَاكُ باللَّهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ...)، واعلم أن العاق محروم من دخول الجنة، محروم من لذة النظر إلى وجه الله سبحانه، قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثةٌ لا ينظرُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ إليهم يومَ القيامةِ؛ العاقُّ لوالِدَيهِ...).

اعلم أن الوالدة لو دعت من قلبها عليك فقد خسرت الدنيا والآخرة، والله لا يرد دعاء الوالدين، فقد قال صلى الله عليه وسم: (ثلاث دعواتٍ مستجاباتٌ: دعوةُ المظلومِ، ودعوةُ المسافرِ، ودعوةُ الوَالِد على وَلدهِ).

اعلم أن العقوق كما يقول كعب الأحبار -رحمه الله- من أسباب تعجيل العقوبة، وحرمان البركة في العمر، بخلاف البارّ بوالديه الذي يجد البركة في عمره ورزقه، مهم جداً أن تعرف خطر العقوق حتى لا تقدم عليه.

ثانياً: اعلم -بارك الله فيك- أن البر ليس حقاً مقابل واجب، بمعنى أن البر غير مرتبط بإحسان والدتك إليك، بل هو واجب عليك وإن هي أساءت، واجب عليك وإن هي قصرت، واجب عليك وإن ظهر لك أنها لك ظالمة، هكذا قرر القرآن وبينت السنة.

ثالثاً: اعلم كذلك أن البر دين مسترد، وأن ما تفعله بوالديك قد يفعل بك إن لم تتب إلى الله وتسامحك الوالدة -حفظها الله- ولك أن تتخيل شعورك لو قام أحد أولادك -عياذاً بالله- وطردك من بيتك وأشهر في وجهك السكين، نسأل الله ألا يكتبها عليك.

رابعاً: اذهب من فورك إلى الوالدة الآن، واعتذر منها وقبّل يديها وقدميها، ومن الآن لا تفكر فيما ستفعله لك الوالدة، ولكن فكر فيما ستقدمه أنت لأمك، هي في سنها تحتاج إلى معين، لا تحتاج إلى من يجهدها ويتعبها أكثر.

خامساً: اجتهد أن تقرأ -يا أخي- عن بر السلف لأمهاتهم حتى تقتدي بهم، هذا عليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب المسمّى بزَيْن العابدين؛ كان يبرّ أُمَّه بِراً عظيماً، حتى سُئل يوماً عن امتناعه عن الأكل مع أُمّه بنفس الوقت رغم برِّه لها، فأجاب قائلاً: "أخاف أن تسبق يدي إلى ما قد سبقت عينها إليه، فأكون قد عققْتها"، وكذلك الحال مع محمد بن سيرين؛ فقد كان حال جلوسه مع أُمّه كالمريض من شدّة تواضعه لها، فقد قال عنه ابن عون -رحمه الله-: "إن محمدًا إذا كان عند أمه لو رآه رجلٌ ظنّ أن به مرضًا من خفض كلامه عندها" هذه الأمثلة وغيرها تنير لك الطريق.

استسمح من الوالدة، واطلب منها أن ترضى عنك، وأن تسامحك على خطئك، وكن لها عوناً وسنداً، هذا هو الطريق إن أردت النجاة والسلامة.

نسأل الله أن يعفو عنك، وأن يسامحك، وأن يعينك على الإحسان إلى أمك وبرها، قبل أن ترحل هي عنك، فتندم على كل لحظة مرت عليك دون الاستفادة من وجودك معها، فأعظم عطاء الله لك بعد الإسلام وجود أمك بجوارك، وسل كل محروم من أمه ينبيك الخبر.

بارك الله فيك وأحسن الله إليك، والله المستعان.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً