الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

دعوت الله أن أكون من الأوائل ولم أتحصل على ذلك!

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ملخص استشارتي لكم: كيف أُصلِح حياتي بعد هذا كُلِّه؟ وأعتذر مقدمًا على الإطالة؛ ولكن ليس لدي من يرد عليّ، -بارك الله فيكم-.

أنا شابٌ دخلت غمار الثانوية، وأدعو الله أن أكون من الأوائل لأتمكن من دخول كلية معينة، كما أتمنى الحصول على مقعد محدد، وطوال العام كنت أشعر بأني طالب غبي، ومضغوط نفسيًا، بالإضافة إلى بعض المشكلات، منها: رغبتي المستمرة بالنوم، فأنام لفتراتٍ طويلةٍ، وأثَّر ذلك على دراستي وحياتي الاجتماعية مع أهلي، ولكنني لم أفلح بحل هذه المشكلة.

اقتربت الامتحانات، وما زلت أعاني من المشاكل نفسها، ونسيت المقرر الدراسي، لا سيما وأني أجهل بعضه، وانتهت الامتحانات، وانهالت الصدمات متتالية، الأولى: لم يُذكَر اسمي في أوائل الثانوية -فها هي قد رُفِضَت الدعوة الأولى-، والثانية: حصلت على مجموع متدنٍ، لا يحقق أيًا من الكليات المرغوبة، ولا المنطقة المرغوبة، فانتقلت إلى القطاع الخاص، وبدأت أدعو الله بحماسٍ أقل، وكما ظننت، لم يستجب لي الله فيما دعوت.

أنا لا أشك في قوة الله، فهو القوي المتين، ولكني لا أضمن أنه سيستجيب لعبدٍ صفته كذا وكذا، مثلي أنا، أيضًا كان هناك أُناسٌ أفضل مني يدعون معي، ولكن بلا فائدة!

فأنا الآن أصبحت أفكر ماديًا قبل أن أطلب من الله شيئًا أريده في الدنيا، ليس شكًا في قدرته، بل لأنه على قَدْر المخاطر (الظن) تأتي الصاعقة (الرفض)، فأريد حلًا لهذا الأمر فضلًا! وما ترتب على عدم وصول مجموعي لما أردت، لا في القطاع العام ولا الخاص.

علمًا أن الحياة في منزلنا أصبحت بطابع عصبي، ولا يطيق بعضنا بعضًا، ونشب خلاف بيني وبين والدي في تحديد مستقبلي الذي لا أرى ملامحه، وأصبحتُ -لأنني لا أجيد الكلام بلا فلسفة بحتة ودينية- من العاقين في نظرهم، ولا أدري بماذا أخطأت! وكانت نقطة الخلاف بأن والدي يتحدث بمقالٍ طويل، ويريد مني الرد بمقال طويل مثله، وأنا لا أجيد ذلك.

ومخلص السؤال: كيف أستعيد رغبتي وثقتي في الدعاء، والذي يحتمل دائمًا الرفض؟ وبكل حالٍ سواء دعَيتُ أم لا، فقضاء الله نافذ، وهل أنا عاقٌ إن طُلِبَ مني ما لا أستطيع، مثل (قل كذا وكذا)، وهو كلام لطلب السماح والتأسف؟ لا أؤمن أنه يُقال لغير الله، وإن كان الأسلوب طبيعيًا، ولا يمسّه الشرك في شيء (أنا لا أقدس بر الوالدين، أفعلُ ما أستطيع).

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

أهلاً بك في موقعك وبين إخوانك، ونحن سعداء لتواصلك معنا، ونسأل الله أن يكتب أجرك، وأن يسعدك، وأن يقدر لك الخير حيث كان، إنه جوادٌ كريمٌ.

قبل أن نجيبك نريد أن نخبرك بأنك تستطيع التعبير عن نفسك جيدًا، وتستطيع كتابة ما أردت، فبعض الرسائل تأتينا لنقرأها عشرات المرات حتى نفهم ماذا يريد السائل! أما أنت ففهمنا سؤالك من أول مرة، وعليه فلا تنخدع بالشيطان إذ أوهمك أنك غير قادرٍ على الإبانة أو الكتابة.

نعود إلى سؤالك ونقسمه إلى:
1- الدعاء غير المستجاب والتعامل بعد ذلك معه.
2- التعامل مع والدك، ومطالبته لك بكتابة كلمات تراها غير مناسبة.

أما الأول: فاعلم -أخي الفاضل- أن الدعاء عبادة، وأن صاحبه مأجورٌ على كل أحواله وإن لم يستجب الله عين دعائه، والله حكيم يفعل ما يشاء، ولا يسأل عما يفعل سبحانه.
يقول ابن الجوزي: اعلم أن الله -عز وجل- لا يرد دعاء المؤمن، غير أنه قد تكون المصلحة في تأخير الإجابة، وقد يكون ما سأله غير مصلح له، فيعوضه عنه ما يصلحه، وربما أخر تعويضه إلى يوم القيامة.

فالمسلم يدعو الله -عز وجل- بما يراه خيرًا، والله -عز وجل- لعلمه بحاله يصرفه عنه؛ لأن الشر كامنٌ فيما يظنه خيرًا ولا يدري، وعليه فالتسليم لله -عز وجل- فيما قضى شأن الصالحين، وعدم الانقطاع عن الدعاء وإن لم يستجب شأن الصادقين؛ ذلك أنه بالدعاء متعبد، وبالتسليم إلى ما يراه الحق له مصلحة مفوض.

يؤكد هذا المعنى حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "ما من رجل يدعو بدعاء إلا استجيب له! فإما أن يعجل له في الدنيا، وإما أن يدخر له في الآخرة، وإما أن يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما دعا، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، أو يستعجل، قالوا: يا رسول الله وكيف يستعجل؟ قال: يقول: دعوت ربي فما استجاب لي" [رواه الترمذي وصححه الألباني].

أمر آخر: استجابة الدعاء لها كذلك ضوابط وفق سنن الله الكونية، تتجاوز صلاح الفرد، فإذا رأينا عابدًا صالحًا مصليًا بعيدًا عن المعصية يدعو الله أن تثمر شجرة داره التي لم يزرعها، ولم يتعهدها كما ينبغي، ولم يأخذ بالأسباب؛ فإن طلبه غير مستجاب، وجاره العاصي الذي ربما لا يصلي ولا يعرف لله حقًا، لكنه أخذ بكل الأسباب المادية التي تجعل الشجرة تثمر؛ الله يحقق له مراده، ولا يضيع تعبه؛ ذلك أن قانون الله في الأرض: {إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً}.

وعليه فعبادة العابد تنفعه في الآخرة، وغفلته وكسله عن أمور دنياه وعدم أخذه بالأسباب المادية التي وضعها الله -عز وجل- لا تحقق له مراده فيها، وكذلك أنت، كل الدعاء الذي دعوت به لك أجره عند الله، ولن يضيع، لكنك إن لم تأخذ بأمر المذاكرة على ما كان يجب، فمن الطبيعي أن يكون الحال كما ذكرت.

وفي قابل أيامك يجب عليك ثلاثة أمور:
1- الإحسان قدر الطاقة في التعبد وتحين أوقات الإجابة.
2- الاجتهاد في بذل ما عليك من الأخذ بالأسباب الدنيوية، وعدم التراخي في ذلك.
3- الرضا بما كتبه الله لك، وأنت موقنٌ مع الرضا أن الخير دائمًا في اختيار الله لك.

أما السؤال الثاني:
التقديس كلمة واسعة يراد بها معاني كثيرة؛ لذلك نحن نقول لك: إن الله الذي خلقك وأمرك بعبادته وحده، وحذرك من الشرك به هو الذي يطلب منك أن تبر أباك مستمعًا له، ومصاحبًا له، وإن دعاك إلى الكفر به جل شأنه!

نعم، يجب عليك مصاحبته بالمعروف وإن دعاك إلى الكفر، نعم لن تستمع له ولن تستجيب في الكفر، لكن الله الذي خلقك أمرك بمصاحبته لقوله: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، ولك أن تفهم معنى كلمة (جاهد) وهي بمعنى (فاعل)، والتي تدل على دوام الجهد وبذله وعدم الاستكانة في حثك على الكفر، ومع ذلك يأمرك الله بمصاحبته بالمعروف.

إذا ما انطلقنا من هذه القاعدة فإن ما طلبه أبوك من الاعتذار له، وإن بدا لك تقديسًا زائدًا فهو ليس كذلك، ما دام لم يأمرك بمعصية تستوجب الكفر به، أو الشرك -عياذًا بالله-.

وعليه فإننا ندعوك -أخي الكريم- وننصحك بما يلي:
1- الاقتراب من الوالد أكثر، ومحاولة فهمه وإرضائه، فهو بعد الله سندك في الدنيا، وسل كل من فقد أباه كيف يشعر، ستعلم أنك في نعمة من الله وعافية بوجوده.

2- بذل المجهود والأخذ بالأسباب الممكنة في تحقيق ما تريد من عمل، والاستعانة على ما تريد بكل ذي خبرة.

3- الدعاء، الدعاء، الدعاء؛ فإنه مفتاح كل باب مغلق، وإن بدا لك غير ذلك.

4- عدم التعجل بالإجابة، والإيمان بأن كل دعاء لك مستجاب وفق محاور ثلاثة:

- إما أن يستجيب الله عين مطلوبك.
- أو يدفع عنك من السوء أو البلاء مثله.
- أو يدخره لك في الآخرة، وكل هذا خير لك.

5- ننصحك -أخي- بطلب العلم الشرعي، وسؤال أهل الاختصاص، وتعلم شيء من عقيدتك، وابدأ بكتاب صغير مثل 200 سؤال وجواب في العقيدة؛ فإن هذا نافعٌ لك.

6- نوصيك بالصحبة الصالحة، وخاصة أولئك الذين جمعوا بين الصلاح في العبادة، والفلاح في العمل، أولئك الذي يتعاملون بإيجابية مع الحياة، ويفهون أنها ليست دار جزاء، بل هي دار ابتلاء، وأن العبد فيها مبتلى، وأن دار الجزاء في الآخرة.

نسأل الله أن يحفظك، وأن يبارك فيك، وأن يقدر لك الخير حيث كان، وأن يرضيك به، والله الموفق.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً