الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

هل يجب أن أتجاهل الدنيا تمامًا لكي أعيش الحياة الطيبة؟

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله
أسأل الله أن يعينكم على هذا الخير.

أنا فتاة في العشرين من عمري، والحمد لله أحاول ما استطعت أن أتقرب إلى الله سبحانه وتعالى، لا أنكر أنني كنت مخطئة في العديد من المرات، لكن منذ نحو سنتين بدأت أحاول جاهدة التقرب إليه... أقرأ القرآن -ولله الحمد- كل يوم تقريبًا، وألتزم بأوقات الصلاة قدر الإمكان.

أحاول أن أُصلي الفجر في وقته، وحتى إذا غفلت قليلاً، أحرص على الرجوع بسرعة، أشاهد محاضرات إسلامية كثيرًا، وبدأت ولله الحمد حفظ القرآن، رغم أن وتيرتي ليست جيدة حاليًا.

لكن رغم كل هذا، أشعر بالنقص... وكأن عبادتي ليست مبنية على أسس صحيحة.

في بعض الأحيان تأتيني أسئلة في العقيدة أخاف منها، مثل: كيف خلقنا الله؟ كيف يُغيّر الدعاء القدر؟ وعندما أرى أطفال غزة، تراودني أفكار: لم يفعلوا شيئًا، حتى الذنوب ليست لديهم، فلماذا يُعاقبون؟!

أتساءل أيضًا: هل الإنسان مُخيّر أم مُسيّر؟ وإذا كنتُ مُسيّرة، فلماذا يُعاقبني الله؟
وفي بعض الأحيان لا أستطيع أن أفهم كيف كان الخلق في أول مرة، أعرف جيدًا أن هذا من الغيب، لكن هذه الأسئلة تتكرر دائمًا، وكنت أتفاداها، لكن هذا العام قررت أن أبدأ بالبحث عن أجوبة لأبني عبادتي على أسس صحيحة.

تأتيني صعوبات أحيانًا... أرى اختلافًا بين العلماء، وتراودني أفكار - أعوذ بالله منها - مثل أن هذا الدين صعب، ولن أستطيع القيام بجميع واجباتي.
أحيانًا أقرر أن أبقى في البيت حتى لا أقترف ذنبًا... أشعر أنني مذنبة، خاصة عندما أرتكب ذنبًا ولا أستطيع التوبة منه رغم محاولاتي المتكررة، فتتحول حياتي إلى كآبة، ولا أعرف ماذا أفعل.

ولدي سؤال آخر متعلق بالحياة الطيبة:
لا أعرف كيف أعيش حياةً طيبة وأنا ملتزمة بديني... هل يجب أن أعيش الحياة وأستمتع بها؟ أم أركز فقط على الآخرة؟

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ Zaineb حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

أولًا: نهنئكِ بفضل الله تعالى عليكِ حين وفقكِ للتوبة، وحبب إليكِ فعل الطاعات، وهذا فضل عظيم ينبغي أن تقابليه بالشكر، ومن شكر هذه النعمة: الثبات والاستمرار على ما أنتِ عليه من الخير.

ونصيحتنا لكِ أن تأخذي بالأسباب التي تُثبّتكِ على هذا الطريق، ومن أهم هذه الأسباب: الصحبة الصالحة، فحاولي أن تتعرفي إلى الفتيات الصالحات، والنساء الطيبات، ولا سيما من كُنّ منهنّ على علم وبصيرة بالدِّين، فإن هذه الصحبة من شأنها أن تُثبّتكِ على سلوك الطريق إلى الله تعالى، وهذه وصية نبوية لكل تائب، نسأل الله تعالى أن يُسهّل لكِ ذلك ويُيَسّره.

وحالتكِ -ابنتنا الكريمة- مفهومة وواضحة، وليست جديدة، فكل من حاول سلوك الطريق إلى الله تعالى، والتقرّب إليه بالأعمال الصالحة، لا سيما إذا كان قد أذنب وتاب، فإن هذا النوع من الناس يُحاول الشيطان جاهدًا أن يصرفهم عن هذا السلوك الجديد، وعن المتابعة في السير في هذا الطريق.

ولذلك يُحاول أن يأتيهم من الأبواب والمنافذ التي لا يستطيعون مدافعته فيها، وقد وصف النبي ﷺ حال الشيطان مع ابن آدم، فقال: "إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه كلها".

فلا غرابة أن يبذل الشيطان كل وُسعه ليصدكِ عن هذا الطريق الذي قررتِ السلوك فيه، فنسأل الله تعالى أن يُوفقكِ، ويأخذ بيدكِ، ويُعينكِ؛ فأنتِ بحاجة إلى عون الله تعالى، وقد علّمنا الله تعالى أن نقول في كل ركعة من صلاتنا: {إياك نعبد وإياك نستعين}.

فنقول -أيتها البنت الكريمة-:
أولًا: لا تقلقي بشأن هذه الأسئلة التي أوردتِها في استشارتكِ، فإن هذه الأسئلة هي جزء من هذا المكر الشيطاني، الذي يُحاول من خلاله الشيطان أن يُثقِّل عليكِ العبادة، ويُزهّدكِ فيها، بحجة أنها ليست مبنية على أصول صحيحة، أو أن عقيدتكِ فيها تشكك وتردد، وغير ذلك من المحاولات الشيطانية البائسة اليائسة، فلا تلتفتي إليها.

وقد أحسنتِ حين قررتِ فيما مضى تجاهل هذه الأسئلة، وعدم التفاعل معها، فهذا هو العلاج الأمثل لها، ولكن هذا لا يعني ترك التعلُّم للدِّين ومعرفة كيف تكون العبادة بشكل صحيح.

فنصيحتنا لكِ أن تجتهدي فيما ينفعكِ، فقد قال الرسول ﷺ: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز".

هذه الوصايا الثلاث هي سبب السعادة لهذا الإنسان في هذه الحياة:
1. أن يكون حريصًا مجتهدًا في تحصيل الشيء النافع، أمَّا ما لا منفعة فيه، فيُعرض عنه ويتركه.
2. الاستعانة بالله سبحانه وتعالى.
3. وترك الفشل والعجز ومقاومته.

فإذا رُزق الإنسان هذه الأخلاق الثلاثة، فقد فُتحت له أبواب السعادة.

فنوصيكِ بأن تحرصي عليها، وأن تتعلمي دينكِ بشكل صحيح دون تعمق، وأن تجتهدي في تعلُّم الضروري الذي يهمكِ: كيفية العبادة، وكيف تكون الصلاة صحيحة، ما هي شروطها، وأركانها، وكذلك ما هي أصول الإيمان التي يجب على الإنسان أن يعتقدها: الإيمان بالله وملائكته وكتبه... إلى آخر هذه الأمور.

وهذه المعلومات سهلة ويسيرة، بإمكانكِ أن تواظبي على سماع الدروس من مواقع العلماء الموثوقين المعروفين، وموقعنا هذا فيه مواد كثيرة نافعة بإذن الله تعالى.

وأمَّا ما ذكرتهِ في استشارتكِ من كثرة أسئلة حول بداية الخلق، وكيف كان الخلق، فهذه أمور لا تهمكِ كثيرًا الآن، وقد بيّن الله تعالى في القرآن الكريم أنه بدأ خلق الإنسان من طين، ثم بيّن -سبحانه وتعالى- لنا كيفية خلق هذا الإنسان في بطن أمه، وهذا للعلم والمعرفة والاتعاظ والاعتبار.

كما أن الأسئلة حول القدر أيضًا لا فائدة من ورائها؛ فنحن تعبدنا الله وكلفنا بأن نعمل بالأسباب؛ أسباب الرزق الدنيوي والديني والأخروي، ثم نفوض الأمور بعد الأخذ بالأسباب إلى الله سبحانه وتعالى.

وأمَّا ما ذكرتِ بشأن ما يقضيه الله تعالى ويقدّره من المصائب على بعض عباده كأطفال غزة وغيرهم، فلله -سبحانه وتعالى- في ذلك حكمة بالغة؛ فهو يريد أن يرفع بعض العباد إلى درجات في المنازل، ويريد أن يعاقب بعض المجرمين بإجرامهم، وهذه الدنيا ليست دار الجزاء، إنما هي دار الابتلاء، ثم الجزاء يكون يوم القيامة، وقد قال سبحانه وتعالى: {ولا تحسبن الله غافلًا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار}.

وبخصوص قولك: لا أعرف كيف أعيش حياةً طيبة وأنا ملتزمة بديني... هل يجب أن أعيش الحياة وأستمتع بها؟ أم أركز فقط على الآخرة؟
نقول: إن الله تعالى قد خلقنا في هذه الدنيا، وسخر لنا كل ما فيها لأجل أن نعمرها، ونستمتع فيها بما أباحه الله تعالى لنا، قال تعالى: [هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ]، فكل ما في الأرض مسخر لنا من أجل أن نستغله في ما أباحه الله لنا، وعلينا ونحن نتمتع بهذه الخيرات ألا ننسى الهدف الذي خلقنا من أجله، وهو عبادة الله عز وجل الذي يقول: [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (57)].

وأما بخصوص الموازنة بين عمل الدنيا وعمل الآخرة، فقد ذكره الله تعالى في قوله: [وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)]، فالتمتع بخيرات الدنيا يجب ألا ينسينا الدار الآخرة والعمل من أجلها، والإقبال على الآخرة لا يعني إهمال نصيبنا من الدنيا.

نسأل الله تعالى أن يُوفقكِ لكل خير، وأن يصرف عنكِ كل سوء ومكروه.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً