الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

يلاحقني ذنب اقترفته في صغري وأتمنى لو أستطيع التخلص منه!

السؤال

السلام عليكم.

لطالما لاحقني ذنبٌ اقترفته في صغري، أهرب منه كلما تذكرته، فيغمرني شعورٌ بالخوف والندم، وأتمنى لو أستطيع التخلص منه، والتوبة إلى الله تعالى.

نحن نعيش في شقة واحدة، وتقطن عمتي في الشقة التي تحتنا، بينما يسكن عمي في الشقة التي تعلو شقتنا، ومنذ ولادتي، لم أعرف الكثير عن أعمامي، حتى إنني لم أكن أعرف أسماءهم حين كنت صغيرًا، رغم أننا نعيش جميعًا في نفس البيت، وربما يعود ذلك إلى بعض الخلافات العائلية القديمة.

وفي أحد الأيام، حين كنت في المرحلة الإعدادية، حدث موقف لا أذكر تفاصيله بدقة، كانت والدتي تظن أن عمي أو أحد أفراد أسرته قد عبث بشيء يخصنا على سطح المنزل، ربما كان متعلقًا بجهاز التلفاز، لا أذكر تمامًا، لكن ما أتذكره أن والدتي شجعتني على الصعود إلى السطح وتخريب عدسات التلفاز الخاصة بعمي، وربما كنت أنا من اقترح عليها تلك الفكرة السيئة.

وبعد ذلك، أخبر عمي والدي أن شخصًا ما قد أتلف العدسات، فأنكرت أنا ووالدتي ذلك، فعلت هذا دون أن أدرك أن هذا الذنب سيظل يلاحقني، ويشعرني بالوحشة كلما تذكرته.

ومؤخرًا، قبل عدة أشهر، بدأت أشعر بالذنب الشديد، وأدركت أن من واجبي أن أرد لعمي حقه، فقد اعتديت عليه ظلمًا، ولم أكن أعرف كيف أتصرف، وذات مرة كنت مع والدي خارج المنزل، فقلت له: "هل تذكر حين أخبرك عمي أن أحدهم أتلف عدسات التلفاز؟" ثم أخبرته أن والدتي هي من فعلت ذلك، أو كانت السبب فيه، فقال لي: "ركّز على دراستك، وسأعطيه حقه".

كنت خائفًا من أن أقول له إنني أنا من فعل ذلك، وخاصةً أن علاقتي بوالدي متوترة في كثير من الأحيان، ولا يوجد تفاهم بيننا، كرهت نفسي، وكل ما أريده الآن هو أن أتوب إلى الله.

فما الذي ينبغي عليّ فعله الآن؟ هل أنسى الأمر، وأسعى إلى برّ والديّ، أم أخبر والدي أنني أنا من ارتكب هذا الفعل؟ أريد أن أنسى هذا الذنب إلى الأبد، فأنا لا أستطيع تحمّل تذكره، وأخشى أن يؤدي اعترافي إلى مشكلة كبيرة بيني وبين والدي، أو أن يكرهني.

أرجو منكم أن ترشدوني إلى ما يبرئ ذمتي، وجزاكم الله خيرًا.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ نور حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

مرحبًا بك -أخانا الفاضل- في استشارات إسلام ويب، ونسأل الله أن يوفقنا وإياك لصالح القول والعمل.

بدايةً -أخانا الكريم- نطمئنك أن ما تجده من تأنيب الضمير والندم المتجدد، إنما هو من دليل على حياة قلبك، فالنفس اللوّامة التي تندم وتؤنب صاحبها على الذنب، هي علامة على إرادة الخير والإصلاح، ولو لم يكن فيك خير لما أقلقك هذا الأمر أصلاً، قال تعالى: ﴿وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾، وحتى نرشدك إلى براءة ذمتك دعنا نوضح لك أمورًا مهمةً:

أولًا: اعلم أن باب التوبة مفتوح لا يُغلق حتى تطلع الشمس من مغربها، وأن الله تعالى يقبل التائبين مهما كان ذنبهم، قال سبحانه: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾، فاجتهد في تحقيق شروط التوبة الثلاثة، وهي: الإقلاع عن الذنب، الندم على فعله، والعزم على عدم العودة إليه، وشرط رابع يتعلق بحقوق العباد، وهو رد المظالم إلى أهلها، فإذا حققت هذه الشروط غفر الله ذنبك بفضله سبحانه، فلا تحزن ولا تيأس من فضل الله وكرمه.

وبالنسبة لك: فقد تحققت فيك –بحمد الله– هذه الشروط: فأنت نادم، عازم على عدم العودة، وحريص على رد الحق، فلا تيأس ولا تجعل هذا الذنب حاجزًا بينك وبين الطاعات، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كلُّ ابنِ آدم خطَّاء، وخيرُ الخطَّائين التوابون).

ثانيًا: الأصل أن حقوق العباد تُردّ إليهم، لكن إن كان الاعتراف المباشر سيؤدي إلى فتنة، أو قطيعة رحم، فالشرع لا يُلزمك بذلك، والممكن هنا أن تُكفِّر عن الفعل بردّ الحق بطريقة غير مباشرة، كأن تهدي عمّك شيئًا نافعًا مقابل ما أفسدته، من غير أن تُفصح عن السبب.

ويكفيك أيضًا أن تعتمد على وعد والدك حين قال لك: "سأعطيه حقه"؛ فهذا يعينك على براءة الذمة -إن شاء الله-.

ثالثًا: برّ الوالدين من أعظم القُربات، ولا يلزمك أن تخبر والدك الآن بتفاصيل ما فعلت، وخاصةً إن كان ذلك يزيد التوتر، أو يفتح باب الخلاف، فاجتهد بدلًا من ذلك في برّه، والإحسان إليه؛ فبرّ الوالدين من أعظم القربات، وأجلّ الطاعات، قال تعالى: ﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾، واحذر من العقوق؛ فإنه من كبائر الذنوب.

أخيرًا: تذكّر أن الله لا يحمّلك فوق طاقتك، وأن إصلاح الخطأ أحيانًا يكون بالستر والعمل الصالح، لا بالاعتراف الذي قد يفسد أكثر مما يُصلح، واجتهد في السعي في إصلاح ما فسد من العلاقة بين أرحامك، فهذا من العمل الصالح الذي تؤجر عليه.

لا تكثر من التفكير في هذا الموضوع، ولا تعطه أكبر من حجمه، فهي وسوسة شيطانية، يريد أن يشغلك عن المهم في حياتك، فلا تلتفت لهذه الأفكار، فقد كنت حينها صغيراً، وأخبرك والدك بأنه سيتكفل بالأمر، فلا تجعل الشيطان يفسد عليك حياتك بالوسوسة، وأكثر من الدعاء والاستغفار، وأحسن إلى عمّك بما تستطيع، ولا يلزمك أن تخبر أحداً بالحقيقة، واجتهد في صلة رحمك، فهذه من أعظم أبواب الخير.

وفقك الله ويسر أمرك.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً