الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أعمل مع والدي ولكنه لا يقدر مجهودي ولا يعطيني حقي، فماذا أفعل؟

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

منذ أن تزوجت وأنا أعيش حياةً أشبه بالجحيم، والدي يتصف بالمكر، ووالدتي كثيرة النميمة. المهم، وباختصار: كنت موظفًا ثم خرجت بتقاعد نسبي؛ مما يجعلني أعتبر نفسي فقيرًا، والحمد لله على كل حال.

والدي يعمل مقاولًا، لكنه لا يرغب في أن أعمل معه، ومع ذلك كان يستغلني في مرافقته، وإيصاله، والسفر معه مسافات طويلة، دون أي مقابل، ومع تقدمه في العمر، أصبح غير قادر على أداء بعض المهام، فتوصّلنا إلى اتفاق نبدأ بموجبه مشروعًا لبناء وحدات سكنية.

سافرنا معًا، واستأجرنا مسكنًا، ثم بدأت بالتواصل مع الموزعين، واللقاء بالبنّائين، ووضعنا خططًا للعمل، وانطلقنا في التنفيذ، و-الحمد لله-، كانت البداية جيدة وسريعة، بوتيرة لم يشهدها والدي في مسيرته المهنية، لكن جميع العاملين والموزعين كانوا ينفرون منه، وتحدث مشاكل بمجرد احتكاكه بهم، فكان يرسلني في كل مرة لأصلح أخطاءهم.

وكان يتصل بأفراد العائلة ويخبرهم أنني مجرد شخص لا قيمة له، لا يعمل ولا يفعل شيئًا، وهذا كان يؤلمني كثيرًا، وبعد سبعة أشهر من العمل، بدأ يرغب في التخلص مني، ولم أحصل منه على فلس واحد، حسبي الله ونعم الوكيل!

أعتذر، أفكاري مشتتة.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ محمد حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

مرحبًا بك -أخي الفاضل- في استشارات إسلام ويب، ونسأل الله أن يوفقنا وإياك لصالح القول والعمل.

بدايةً -أخي العزيز-: نشعر بما تمرّ به من عدم تقديرٍ لجهودك، وعدم الاعتراف بما تقدّمه من عطاءٍ أو مشاركة، وهذا لا شكَّ يشعرك بالظلم، ولكن ينبغي أن تعلم أن الحياة من طبيعتها الكدح والتعب، وأن الإنسان لا يعيش في نعيمٍ دائم، قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ}.

فلا بد أن توطِّن نفسك أنك ستجد في الحياة كثيرًا من العقبات والصعوبات والجحود، لأنك تتعامل مع بشرٍ فيهم الصالح وغير الصالح؛ فمن صبر واحتسب الأجر كان له الثواب والحسنات يوم القيامة، قال رسول الله ﷺ: «‌مَا ‌يُصِيبُ ‌الْمُسْلِمَ ‌مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ» (رواه البخاري).

ثم ينبغي أن تعلم -أخي الكريم- أن والديك، مهما صدر منهما من تقصيرٍ في حقك أو تجاهلٍ لجهودك، لا يجوز لك أن تصف والدك أو والدتك بمثل هذه العبارات؛ فالله تعالى أمر بالإحسان إلى الوالدين حتى وإن كانا كافرين، فكيف إذا كان عندهما شيءٌ من التقصير أو النقص؟ فلا يسوغ ذلك الغِلظة أو الشدة عليهما، ولا يُبرّر العقوق الذي هو كبيرةٌ من الكبائر.

قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.

واعلم أن تقصير والدك في حقك أو عدم اعترافه بجهودك هو نوعٌ من الابتلاء، فعليك بالصبر واحتساب الأجر عند الله تعالى، ومقابلة الإساءة بالإحسان والمعروف، حتى تجد أثر ذلك في برّ أبنائك، وتنال التوفيق والخير في حياتك.

أخي الفاضل: ننصحك لإصلاح العلاقة مع والدك، وللفت نظره إلى ما تقدّمه من جهودٍ في تنمية أمواله واجتهادك في حفظها، بما يلي:

أولًا: لا تتوقف عن الإحسان والعطاء وخدمة والدك، حتى وإن أساء إليك، كما جاء في الحديث «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُوننِي، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ فَقَالَ ﷺ: لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ ‌فَكَأَنَّمَا ‌تُسِفُّهُمُ ‌الْمَلَّ، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ» (رواه مسلم).

ثانيًا: اجتهد في اختيار الأوقات المناسبة، وادخل في حوارٍ واضحٍ وصريحٍ مع والدك حول هذا الموضوع، ولا تجعل الحوار اتهامًا أو نقدًا، وإنما محاولةً لفهم الأسباب والرد عليها بكل تقديرٍ واحترام.

ثالثًا: إذا لم تُفلح في إقناع والدك، فيمكن أن تبحث عن شخص له تقدير ومكانة؛ عند والدك ليتحدث معه عمَّا في نفسك، ويشفع لك عنده أن يساعدك، أو أن يعتبرك موظفًا براتبٍ شهري، يساعدك على تحسين وضعك، ثم الاستقلال بنفسك تجاريًا بعد ذلك.

أخي العزيز: يكبر مع الإنسان حرصه على المال، كما قال رسول الله ﷺ: «‌يَكْبَرُ ‌ابْنُ ‌آدَمَ ‌وَيَكْبَرُ ‌مَعَهُ اثْنَانِ: حُبُّ الْمَالِ، وَطُولُ الْعُمُرِ» (رواه البخاري)، لذلك لا تتصادم مع والدك، ولا تجعل الدنيا سببًا في إفساد علاقة البر والإحسان بوالديك.

وابحث عن مصادر رزقٍ في مكانٍ آخر أو بأي طريقةٍ مشروعة، والله سيبارك لك في رزقك ما دمت بارًّا بوالديك، وعندما يرى والدك هذا البر والإحسان ومقابلة الإساءة بالمعروف، سيلين قلبه، فأنت مهما كان تبقى ابنه، ومن سيحمل اسمه من بعده.

أخيرًا: أكثر من الدعاء والتضرع إلى الله تعالى أن يصلح والدك، واجتهد أن تجعل علاقتك بالله تعالى وثيقة، وداوم على الصلاة، وأكثر من قراءة القرآن وذكر الله تعالى، فذلك من أعظم ما يعين على ذهاب الهم والحزن، ويقوّي النفس على شدائد الحياة.

وفّقك الله ويسّر أمرك.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً