الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أخي أتعب والديَّ بانحرافه ويفكر فقط في الهجرة لأوروبا..كيف نتعامل معه؟

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

سؤالي هذا نيابةً عن أمي؛ فهي تريد أن تسألكم كيف يمكن التعامل مع ابن بعمر 21 سنةً، وبعد أشهر قليلة سيصبح -إن شاء الله- بعمر 22 سنةً؟

كيف يجب أن يتعامل معه الوالدان؟ فهو لا يريد أن يدرس، ولا يريد أن يتعلم لغةً، ولا يريد أن يطبق أيًا مما يطلبه الوالدان أن يفعله؛ فهو لا يريد أن يعمل أيضًا، ويكتفي بطلب المال من أبيه.

كما أن هذا الابن عصبي جدًا، ولم يكن هكذا، ولكنه في الخمس سنوات الأخيرة أصبح عصبيًا جدًا، ويدخن منذ خمس سنوات، ويريد الهجرة لأوروبا، ويقول: لن أغير من حياتي إلا إذا ذهبت هناك، وحينها سأترك التدخين، كما أن أصحابه سيؤون، وهو بنفسه أفكاره سطحية، ولا يرى إلا الماديات.

في الأشهر الماضية قام هو وصديق له بسرقة مبلغ من المال من صديق آخر لهما، وعلمنا بذلك الأمر عندما تم اعتقاله؛ ولقد قال صديقهم الذي سُرق منه المال بأنهما كانا يجتمعان عنده، ويشربان الخمر، وقال بأنه شرب معهما الخمر -والعياذ بالله- أربع جلسات، أو خمساً، واستغلا سكره، وسرقا منه المال، ودخل أخي السجن بالفعل، وأمضى فيه شهرًا، ولكن بحكم أنه لأول مرة يفعل شيئًا كهذا، وأنه لا زال يدرس، فقد تم الحكم عليه بالحكم مع وقف التنفيذ.

وعندما كان في السجن كان يقبل يد أمي ورأسها، ويقول بأنه مستعد لأن يعمل، ويكمل دراسته إذا خرج، ولكن بعد أن من الله عليه بالحرية، فإن كل ذلك تلاشى، ويقول: بأن السجن لا يخيفني، أنا لن أدرس، ولن أتعلم حتى أذهب لأوروبا.

وعندما خرج للعمل لأيام قليلة، قال بأن ذلك العمل لا يناسبه، وأنه لا يريد أن يعمل؛ وإذا قال بأنه يريد، فهو مجرد كلام عابر لا يعنيه حقيقةً، كما أنه يقول: "إذا لم أذهب هذا العام فسأفعل شيئًا آخر لأدخل به السجن، وستقولون: يا ليتنا سفرناه لأوروبا!

لكن الهجرة هناك لها ضوابط؛ مثل: اللغة، والعمل، أو أنه يحمل الجنسية، وهو لا يملك أيًا من ذلك، لكن والده يستطيع أن يأخذ له الجنسية؛ فقد ولد أبي عندما كانت الدولة الأوروبية تستعمر البلاد، وله الحق في استرجاع الجنسية، لكن ذلك يتطلب مصاريف، وأن يذهب بنفسه هناك، وهو ما لا يملكه الآن.

والله إن الأمر يؤرق أمي، ويؤرقنا أيضًا، لدرجة أنها فكرت هي وأبي في اقتراض مال من البنك، وكل البنوك هنا ربوية، ولم تستطع، فما الحل؟

أفيدونا؛ فهو عصبي من هذه الناحية، ولا يقبل النصائح، وأناني إذا قال له أحد: حسن من نفسك، ويصرخ في وجه الذي ينصحه، حتى وإن كان أباه أو أمه؛ فهم في صغره لم يشدوا عليه، والآن هو كبر، ولا يمكن أن يشدوا عليه، ويخافون أن يضيع أكثر.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ سائلة حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

نسأل الله أن يطمئن قلوبكم، وأن يصلح لكم ابنكم، وأن يرزقكم الحكمة، وحسن التوكل عليه.

نشكركم ووالدتكم الفاضلة لحرصكم على هداية هذا الابن؛ فهذا الحرص بحد ذاته علامة خير، وما دام في القلب رحمةٌ، واهتمام، فباب الإصلاح مفتوح -بإذن الله-.

أول ما نود التأكيد عليه: أن ما يمر به ابنكم ليس حالة نادرة؛ فالمرحلة العمرية ما بين 20 - 25 سنةً من أكثر مراحل العمر اضطرابًا عند بعض الشباب، وخاصةً إذا اقترنت بصحبة سيئة، واستباحة للمحرمات، وبعد عن الالتزام بالدين، وضعف في الشعور بالمسؤولية، وهذا لا يعني فقدان الأمل، بل كثير من الشباب مروا بتجارب مشابهة ثم أعادهم الله إلى الجادة، وإنما يحتاج الأمر إلى صبرٍ، وحكمةٍ، وطول نَفَس.

وبالنظر إلى أصل المشكلة: يتضح من وصفكم أن ابنكم يعاني من عدة أمور متداخلة مثل: ضعف التديّن، غياب القدوة، الاعتماد الكامل على الوالدين، صحبة غير صالحة، إضافة إلى الحدة والعناد.

وهذه العوامل إذا اجتمعت في شاب في بداية حياته –قليل الخبرة- قد تدفعه للتمرد، ومحاولة فرض رغباته، ومنها فكرة الهجرة، والتهديد بالسجن، وهذا –في الغالب– نوع من أنواع الهروب من الواقع أكثر من كونه خطة حقيقية للمستقبل، وليس مستبعدًا أيضًا أن تكون تجربة السجن قد سببت له خوفًا داخليًا يحاول إخفاءه بالعناد، والعصبية، واللامبالاة.

وبخصوص التوصيات اللازمة للتعامل مع حالته، ننصحكم بالأمور التالية:

1. تخفيف الضغط المباشر؛ فالإلحاح المتكرر عليه بالدراسة أو العمل يزيد من عناده؛ ولذلك لا بأس بالتوقف فترةً عن كثرة التوجيهات المباشرة، ويُكتفى بقدر لطيف من الكلام الهادئ غير المتكرر؛ حتى لا يشعر بأنه محاصر.

2. فتح باب الحوار دون عتاب؛ وذلك بأن تحاولوا الحديث معه كصديق، لا كمتّهم، واستمعوا له بهدوء، حتى لو قال كلامًا غير منطقي؛ لأن مجرد شعوره بأن والديه يسمعانه بلا صدام قد يفتح له بابًا للتراجع.

3. ربط قلبه بالله، وتقوية الصلة به، وهذا هو الأصل؛ فإن القلب إذا استقام يستقيم معه السلوك.
ويمكن تشجيعه –بلطف– للمواظبة على أداء الصلاة، وحضور خطبة الجمعة، مع قراءة شيء يسير من القرآن يوميًا، أو الاستماع لمحتوى هادئ عن التوبة، والصحبة الصالحة.
ولا تُذكَر له هذه الأمور كأوامر، بل كاقتراحات وفي أوقات مناسبة؛ حتى لا يقاوم التوجيهات باعتبارها نوعًا من التحدي للآخرين.

4. إبعاده عن أصحاب السوء: ويعد من أهم مفاتيح الإصلاح أن يبتعد عن البيئة التي جّرته للمحرمات، وقد لا يقبل هذا مباشرةً، ولكن يمكن تقليل وجوده معهم بالتدريج؛ عن طريق شغله بأنشطة بديلة، أو مسؤوليات بسيطة داخل البيت، علمًا بان استمرار هذه الصحبة في بؤرة اهتمامه، وقضاء أوقاته معهم تساعد على انتكاس حالته، واستمرار مشكلة تعاطيه الخمر؛ لذا من المهم إبعاده عنهم حتى يتعافى من المشكلات السلوكية والأخلاقية المرتبطة بوجوده معهم.

5. وضع حدود واضحة دون صدام؛ كأن يتفق الوالدان معه أن المال لن يُعطى بلا ضابط، وأن الأسرة لن تساعد في أي خطوة فيها ضرر أو معصية، ويُطرح ذلك بهدوء وصراحة، دون تهديد مباشر.

6. عدم الاستجابة للابتزاز بموضوع الهجرة أو السجن؛ فكثير من الشباب يستخدم مثل هذه العبارات ليحصل على مكاسب، فإذا رأى أن والديه يثبتان على موقفهما الهادئ، ولا يخضعان للضغط، فإنه يتراجع تلقائيًا.

7. إشغاله بعمل ولو بسيط، حتى وإن كان لا يعجبه؛ فالمهم أن يدخل في جو المسؤولية، وإن ترك العمل بعد أيام لا يعني الفشل، بل تُعاد المحاولة مرارًا، مع تشجيع لطيف، دون تعنيف.

8. العلاج السلوك، أو الاستشارة النفسية: إن الحدة المفاجئة، ورفض المسؤوليات قد تكون مؤشرات على اضطراب نفسي، أو تراكم ضغوط، وقد يستفيد كثيرًا من جلسات الإرشاد عند استشاري نفسي متخصص، دون إظهار الأمر له على أنه علاج، أو تشخيص، بل على أنه استشارة تساعده على إدارة وإعادة ترتيب حياته.

أما بخصوص ما يتعلق بموضوع الهجرة، وربط حياته كلها بالهجرة:
فإن ذلك يدل على أنه يعيش حلمًا، وليس خطةً واقعيةً؛ لذلك لا ننصح بالاستجابة لهذا المطلب في ظل وضعه الحالي؛ لأنه لو سافر بهذه النفسية، فقد يزداد الأمر سوءًا، ولا يجوز الاقتراض بالربا لأجل هذا الأمر، أو غيره؛ فالله لا يجعل الشفاء فيما حرم، وما يُنال بالحرام لا يأتي بخير.

ويجب أن يعلم الوالدان أنهما غير مؤاخذين بعد أن قاما بالنصح والاهتمام بما يستطيعان، وليس عليهما التحمل فوق طاقتهما، قال تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)، والابن نفسه –مهما انحرف– فإن باب التوبة مفتوح له، ورب كلمة، أو موقف، أو موقف رحيم من والدته قد يعيد إليه صوابه، والله يهدي من يشاء.

ومن أعظم أسباب الهداية، ولا سيما من الأم الدعاء؛ فدعاء الوالدين مستجاب -بإذن الله-، وقد غيّر الله به أحوالًا أشد من حالة ابنكم.

كما نوصيكم بالصبر، وعدم اليأس، والتعامل مع الابن بروح هادئة ثابتة، لا تخضع للتهديد، ولا تنساق إلى غضب، ومع الوقت سيهدأ اندفاعه، ويبدأ بالتفكير الواقعي، وربما ينقلب حاله إلى خير؛ فكم من شاب في مثل حاله صار بعد سنوات من أكثر الناس نضجًا واستقامةً.

نسأل الله أن يصلحه، وأن يقر أعينكم به.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً