الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

ظهرت على أبي حالة اكتئابية غربية، فماذا نفعل معه؟

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أكتب إليكم وأسأل الله عز وجل أن يوفقكم لخير نصح وخير دليل أصل به إلى الصواب، وإلى الطريق الأمثل.

والدي يبلغ من العمر الآن 65 سنة، ونحن من بيئة متوسطة، قضى عمره كله معنا في السفر للعمل بالخارج، وربانا وربى إخوتي بأفضل ما تكون فاخر الأخلاق بشهادة الجميع، والحمد لله تزوجنا جميعا أنا وأخ أكبر وأختان باستثناء أختي الصغرى الآن.

حتى لا أطيل عليكم أقول لكم: إن الحال الآن أن أبي مع أمي وأختي الصغرى في بيتهم الكبير، وأنا وأخي مسافران مع أزواجنا للخارج، وأختاي متزوجتان، وإحداهن مسافرة.

يعانى أبي من حالة لا أعرفها، رافضاً لكل شيء، وناقما على كل شيء، لا يكلم أحدا، ولا يأكل شيئا حتى مع صيامه في رمضان.

لا يكلم أمي ويقسو عليها، ويحملها دون كلام مسئولية كل شيء رغم كبرها الآن، ومرضها أيضا..إلى غير ذلك من الاتهامات والشتائم، وأحيانا على أتفه سبب.

البيت كأنه مقبرة أو مغارة لا تعرف له بابا، أنا عدت من إجازتي، وكذلك أخي الأكبر المسافر لبلد أخرى مع أهله، وكالعادة منذ أربع سنوات تقريبا.

تبدأ الإجازة بخير وكأحسن ما يكون ثم يعتزلنا جميعا بسبب أو دون سبب كما هذه المرة، ويصل الأمر حتى إنه لا يسلم علينا، وإن سلم فبدون أي اهتمام!

حاولنا محادثته لمعرفة ما به والتخفيف عنه، مع العلم أنه من المصلين الملتزمين الخاشعين، إلا أنه ليس له أصدقاء أو مقربون، وأعمامي وعماتي كل في همه وحياته، ولا أحد يهتم به!

كل مرة لا نخرج بشيء، وكأنه مستغرب من الدنيا كلها، ويلوم نفسه على مثاليته المشهود له بها، ويلوم نفسه على تضحياته وتعبه وكل حياته.

الآن لا يكلم أمي ولا أنا، ولا أخي الأكبر، ولا أخواتي، ولا يأكل إلا جبنا وخبزا، ولا يكلم أحدا، وفى غرفته ولا يخرج إلا للصلاة.

أمي في هم عظيم، وأختي الصغرى لا حول لها ولا قوة إلا بالله، وأخبر أخي الأكبر قبل سفره أنه لن يرد على اتصالاتنا له، وطلب منا أن لا نحرجه بالاتصال وطلبه.

أنا لا أعلم ماذا علي أن أفعل؟! كل إجازة قبل نهايتها ينقلب الحال هكذا دون سبب، ولكنها هذه المرة أشد وأطول، وبأثر واضح على صحته.

علماً بأني وإخوتي نطلب بره، ونتمنى راحته، وعلاقتنا ببعضنا بخير ما يكون، حتى إن أختي المتزوجتان لم أكلفه شيئا من تكاليفهما إلا بالقليل، مع العلم أنه معلوم عنه أيضا كثرة التفكير المستمر، وسوء ظنه بأغلب من حوله، وأولهم نحن، وأغلبها على الأمور المادية.

هل نرسل مالا لأمي من ورائه؟ وهل وهل وهل؟ وأين تذهب أموال المعاش؟ وكل ما يدور حول ذلك، فنحن وأنا خاصة في هم كبير وغربة ولا أعلم ماذا أفعل!؟

أفيدوني أكرمكم الله، وجزاكم خيرا.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ ahmed حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:

شكراً -أخي أحمد- على سؤالك الذي أحسنت التعبير فيه برسم صورة وضع والدك حفظه الله.

السؤال الأهم الذي نسأله أنفسنا نحن الأطباء النفسانيين: هل ما وصفت في واقع والدك الآن منسجم وممتد لشخصيته وطريقة تعامله السابقة من سنوات، أم أن هذا التبدل ظهر لاحقا -ربما بعد التقاعد وترك العمل-؟

إذا كان امتدادا للماضي، وهو على هذا منذ سنوات طويلة، فربما يعود هذا لطبيعة شخصيته، وهذا لا يستبعد احتمال إصابته بمشكلة أو مرض نفسي قديم، ولكن العمل والسفر لم يظهر هذا الأمر بالشكل الواضح الذي عليه الآن.

أنا أرجح الأمر الآخر، وهو أن هذا تطور جديد في شخصيته وطريقة تعامله مع نفسه ومع الآخرين.

من المعروف أن الرجل وفي هذا العمر وخاصة بعد التقاعد وترك العمل، قد يصاب بحالة من الاكتئاب، ومما يفسر بعض الأعراض الموجودة عند والدك بقاؤه في غرفته وعدم المغادرة إلا للصلاة، وفقدان الشهية للطعام إلا ما يبقيه على قيد الحياة، وقلة كلامه، فهذه وغيرها مما لم يرد في السؤال لعدم معرفتك بها، قد تشير لحالة من الاكتئاب.

لكن يبدو أن هناك أمرا آخر، وقد يكون هو أيضا جزءاً من الاكتئاب، وهو أن عند والدك حالة نسميها "الزور" وهي بعض الأفكار غير الحقيقة أو الواقعية، حيث يشك بالآخرين من حوله، ولا يثق بهم، وقد يعتقد أنهم يتآمرون عليه أو يحاولون أن يؤذوه، وربما لهذا أيضا هو لا يثق بالطعام الذي يقدم له، خشية أن فيه ما يضر، أقول هذا افتراضاً أفترضه لأفهم وأفسر بعض أعراضه، والجواب الأكيد يتم بعد فحص الحالة العقلية والنفسية لوالدك بشكل مباشر ووجها لوجه.

هناك ما يسمى "الاكتئاب الزوري" عندما تشترك أعراض الاكتئاب مع أعراض الزور، فتكون صورة الشخص ما هو عليه والدك الآن، وهو عندما يسيء معاملة زوجته أو أسرته بالكلام وعدم السلام فهو لا يقصد الإساءة، فالأمر خارج ولحد كبير عن إرادته وسيطرته.

أنصح بالأمور التالية:

- محاولة عرض الوالد على طبيب نفسي قريب منكم، ليفحص الوالد ويصل إلى التشخيص الدقيق، ومن ثم العلاج، فالعلاج يجب أن يكون على أساس قوي من التشخيص السليم والدقيق.

أنصح بهذا وخاصة أنه يبدو أن عنده بعض ملامح أعراض عدم الرغبة بالحياة، ولن أستغرب إن كانت لديه بعد الفحص بعض الأفكار من أن هذه الحياة غير جديرة بالعيش، ولذلك أؤكد على مراجعة طبيب نفسي، والأمر قابل للتحسن وتخفيف الأعراض.

لا ننس أن بعض الأعراض النفسية قد تكون مظهرا لمرض عضوي جسدي، ولذلك لا بد من فحص الوالد والقيام ببعض الاختبارات الطبية.

المشكلة الكبيرة هي في كيفية إقناع الوالد بمراجعة الطبيب، ويمكن هنا استعمال المرض البدني كحجة ليصل لعيادة الطبيب، وعندها لكل حادث حديث.

- أنصح بقراءة كتاب "المرشد في الأمراض النفسية واضطرابات السلوك" د. مأمون مبيض. ويمكن الحصول عليه من مكتبات جرير عندكم، أو من موقع نيل وفرات (neelwafurat.com)

- رعاية الوالدة والوقوف معها، ولا بأس من إرسال المال إليها مباشرة لترعى نفسها وأسرتها، فالوالد لا يبدو أنه في حالة صحية سليمة ليقوم بهذا.

وفقكم الله لرعاية هذا الوالد الذي يبدو أن لم يقصر في رعاية أسرته لسنوات، وهو الآن يحتاج للرعاية المطلوبة.

بالله الموفق.

د مأمون مبيض
=========

انتهت إجابة المستشار النفسي الدكتور/ مأمور مبيض، تليها إجابة المستشار الشرعي الشيخ / أحمد المحمدي:

الأمر الفائت -أخي أحمد- يجب أن يجعل دائرة الاهتمام بوالدك تزيد، وإذا كان رعاية الوالد لولده الصغير أكبر من الكبير، ورعاية الوالد لولده المريض أكثر من الصحيح؛ فإن رعاية الولد لوالده المريض واجب شرعي يفرضه الشرع ويوجبه الحالة التي مر بها.

لا يخفاك وأنت الأخ المتدين العاقل المؤدب كما يبدو على ملامح سؤالك فضل الوالد على والده، والآيات والأحاديث التي تتحدث عن وجوب بره كثيرة جدا، ولعظم مكانتهما قرَنَ الله شكرهما بشكره، فقال: "أن اشكر لي ولوالديك إليّ المصير" فمن لا يشكر لوالديه فإن الله غني عن شكره، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "ثلاثة مقرونة بثلاثة، قال تعالى: "وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة"، فمن أقام الصلاة ولم يؤت الزكاة الواجبة لا تقبل له صلاة، وقال: "وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول"، فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لا يقبل الله طاعته، وقال: "أن اشكر لي ولوالديك"، فمن شكر لله ولم يشكر لوالديه لا يقبل الله شكره".

وقد جعل الله رضاه في رضا الوالدين وسخطه في سخطهما. فالسعيد من وفق بعد تقوى الله عز وجل لبر والديه، والإحسان إليهما، والشقي التعيس من عقَّ والديه وعصاهما وأساء إليهما، ولم يرع حقوقهما، فبر الوالدين سبب من أسباب دخول الجنة، وعقوقهما من أقوى أسباب دخول النار: "الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه".

عن ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: "من أصبح مطيعاً لله في والديه أصبح له بابان مفتوحان من الجنة، وإن واحداً فواحد، ومن أصبح عاصياً لله في والديه أصبح له بابان مفتوحان من النار، وإن كان واحداً فواحد؛ قال رجل: وإن ظلماه؟ قال: وإن ظلماه، وإن ظلماه، وإن ظلماه".

اعلم أخي أنك مهما قدمت فلن تفي والدك حقه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه)) لكن الله سيؤجرك خيرا، وسيجعل هذا البر في عقبك وفي نسلك إن شاء الله، وفقك الله ورعاك وأعانك الله على بره.

والله الموفق.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً