الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

كيف يتم العفو عن الآخرين؟ وهل يمكن التراجع عنه؟

السؤال

بارك الله فيكم، وجزاكم عنا كل خير.

هناك من ظلمني ولم يطلب مني أن أسامحه، حتى إنه -ربما- لا يعلم أنه ظلمني، لكن مع ذلك دعوت الله قائلًا: يا رب إني عفوت عنه، ثم تراجعت بعد ذلك ودعوت عليه، وأنا الآن نادم، وأريد أن أعفو عنه لأنال أجر العفو، فهل أكون بعفوي عنه أول الأمر أحللت ذلك الشخص؛ وبالتالي فتراجعي ودعائي عليه ليس مجديًا؛ لأنه لم يبق عليه شيء؟ وإن كان الأمر ممكنًا وأردت أن أعفو عنه مرة أخرى فهل يمكنني ذلك؟

بالنسبة للناس الذين ظلمتهم أو اغتبتهم، كيف أستحلهم؟ ولو لم أستطع أن أصل إليهم لأستحلهم، إما لكثرتهم، أو عدم تذكرهم، أو أي عائق فهل يمكن الاستغفار والدعاء لهم؟ لكنه لم يرد حديث يدل على ذلك من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام بل الوارد هو الاستحلال، فما الحل؟

بالنسبة لمن ذهبت لأستحلهم وطلبت منهم أن يسامحوني ويعفو عني, وقالوا بأنهم عفوا عني، لكنهم في قرارة أنفسهم لم يعفوا، فهل ما زال عليّ شيء أم أني تحللت منهم؟

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ أحمد حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

إنه ليسرنا أن نرحب بك في موقعك استشارات إسلام ويب، فأهلًا وسهلًا ومرحبًا بك في موقعك، وكم يسعدنا اتصالك بنا دائمًا في أي وقت, وعن أي موضوع، ونسأل الله جل جلاله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا أن يغفر ذنبك, وأن يستر عيبك، وأن يتجاوز عن سيئاتك, وأن يعينك على التوبة النصوح، وأن يكرمك بأن لا يؤاخذك بذنوب عباده، وأن يعفو عنك فيما بينك وبينه، إنه جواد كريم.

بخصوص ما ورد برسالتك -أخي الكريم الفاضل- فإنك تعلم أن الله تعالى جعل المؤمنين إخوة كما أخبرنا الله تعالى في كتابه: { إنما المؤمنون إخوة} والنبي صلى الله عليه وسلم قال: ( المؤمن أخو المؤمن), وفي رواية: (المسلم أخو المسلم) فهذه الأخوة تقتضي منا أن نحافظ على أعراض بعضنا، وأن نحافظ على أموال بعضنا, وأن نحافظ على دماء بعضنا, وأن ننزل أخانا منزلة أنفسنا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه)، فإذا قدَّر الله تعالى ووقع الإنسان في أمر مخالف لهذه المحبة وهذه المودة وهذه الأخوة فعليه أن يعجل أولًا بالاستحلال من أصحاب الحق؛ لأن الحقوق قسَّمها العلماء إلى قسمين:

حق لله تعالى مبني على العفو والمسامحة؛ لأن الله عفوٌّ غفور، ولأنه تواب يحب التوابين، ويحب المتطهرين، ولأنه يفرح بعودة عبده إليه وتوبته له، فإذا ما أذنب العبد ذنبًا في حق الله تعالى ثم سأل الله بصدق أن يغفر له فسيغفر الله له كل الذي كان منه ما دام موحدًا.

أما الحق الثاني فهو حق العباد، وهو مبني على البخل والمشاحَّة، وعلى الأنانية وحب الذات، وخاصة أن العبد يوم القيامة لا يستطيع أن يعفو؛ لأنه يريد الحسنات, ولا يدري أين سيذهب به.

وبما أن العفو من العبادات، وهو يكون في الدنيا، ولا يكون في الآخرة - فيما أعلم -، وسؤالك عن هذا الشخص الذي ظلمك وهو لا يعرف أنه قد ظلمك ثم دعوت الله له أن يغفر الله له, ثم بعد فترة لم تطب نفسك بذلك, وتراجعت ودعوت عليه، وبعد فترة أخرى بدأت تدعو له وتسأل: ما الذي عليك عمله الآن؟

اعلم أن الله تعالى علم كل شيء قبل أن يخلق أي شيء، فالله تعالى جل جلاله وتقدست أسماؤه يعلم أنك ستفعل هذه الأشياء، ويعلم أنك سوف ترجع وتندم، وأنك تتمنى أن تكون من العافين عن الناس، حتى يعفو الله عنك؛ لذلك لا تشغل بالك بهذه المسألة الآن، وكل الذي عليك هو أن تعفو عن أخيك، وأن تجتهد في سؤال الله عز وجل أن يعفو عنه، وأن يغفر له، وأنت من جانبك تقول: إنني أحللته من كل ذنب كان سببًا فيه أو مشكلة أو بلاء أو غير ذلك، واجعل هذا الأمر - بارك الله فيك - هو آخر الأمر؛ لأن هذا هو الذي سوف يكون عليه العمل - بإذن الله -، ولا تشغل بالك بالذي مر قبل ذلك.

فيما يتعلق بهؤلاء الذين اغتبتهم أو طعنت فيهم أو ظلمتهم: إذا كانت بمقدورك أن ترد المظالم إليهم - كأن تكون المظالم قابلة للرد، كأخذ أموال بعض الإخوة أو بعض الناس مثلًا - فهذه يتعين عليك أن تردها, فإذا كان الشيء يمكن رده فعليك رده كشرط من شروط التوبة، إلا إذا تعذر الوصول إليه أي: إذا أخذت مالًا من إنسان فرضًا ثم ترك البلد الذي أنت فيه، وأنت لا تدري أين هو؟! وليست لديك وسيلة اتصال به، وتعذر عليك أن تصل إليه؛ لأنك لا تعرف بلده على وجه التحديد، ففي هذه الحالة تقوم بإخراج هذا المال على صورة صدقة على نية صاحبك هذا، فإن قدَّر الله تعالى وقابلته مرة أخرى فتعرض عليه التصرف الذي قمت به، فإن أقرَّه وقبل منك ذلك، فأنت في حلٍّ، وأما إن أصر على أخذ حقه فتعطيه حقه, وتصبح هذه الصدقة لك؛ لأنك فعلت معروفًا، ولن يضيع الله أجرك.

أما إذا كان الحق مما يتعذر تعويضه ورده - وذلك كمسألة الغيبة, أو الكذب, أو النميمة, وغير ذلك – فعليك بالدعاء لهم أن يغفر الله لهم, وأن تذكرهم بالخير في المواطن التي ذكرتهم فيها بسوء، فكلما مررت بذلك فاجتهد في الدعاء لهم - أسأل الله أن يغفر لهم ولك -.

وأهم شيء في التوبة - كما ذكر العلماء - أن تتبع الأماكن التي أسأت فيها إليهم بأن تحسن فيها لهم، وأن تبين أنهم أهل خير وفضل، وأنك كنت مخطئًا.

أما إذا ذهبت إلى أشخاص وطلبت منهم أن يعفوا عنك أو يسامحوك, وسامحوك فيما يبدو لك، ولكنهم لم يعفو عنك من قلوبهم، فأنت لا علاقة لك بالقلوب -أخي الكريم- بارك الله فيك؛ لأن القلوب لا يعلم ما فيها إلا علام الغيوب جل جلاله، والنبي صلى الله ورد عنه: (لنا ما ظهر منهم)

إذن: نحن نتعامل مع الظاهر فقط، أما الباطن فعلمه إلى الله تعالى، فهو الذي قال: { إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله}, وقال في آية أخرى:{ يحاسبكم به الله}.

إذن - بارك الله فيك - أنت لست مسئولًا عن ما في أنفس الناس، فما دمت قد ذهبت إليهم - وهو غير مكره على العفو, وإنما طلبت منه وناشدته, ولعلك ألححت عليه, وأغريته بأي وسيلة – وقال: قد عفوت عنك، يغفر الله لي ولك، فليس لك إلا هذا، ولا يؤاخذك الله تعالى على ذلك؛ كونه في داخل نفسه نوى أمرًا آخر، فأنت لست مسئولًا عنه, ولا تشغل بالك به.

كما ذكرت لك، نحن لنا بالظاهر فقط، ولا نستطيع أن تعرف الباطن حتى نحكم عليه، وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا كلام عمر - رضي الله عنه -: من أبدى لنا إحسانًا كافأناه عليه، ومن أبدى لنا إساءة عاقبناه عليها, وأبدى بمعنى: أظهر.

فإن أظهر هؤلاء الناس لك أنهم عفوا, وأنهم قد سامحوا وتجاوزا, فهذا يكفيك, وما سوى ذلك لا تشغل بالك به؛ لأنه ليس من شأنك، والله لم يكلفك به.

أسأل الله أن يوفقك للطاعات, واجتهد في عدم الوقوع في أعراض الناس, وبالله التوفيق والسداد.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً