الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

تحدث لي ابتلاءات شديدة رغم محافظتي على الطاعات، فما سبب ذلك؟

السؤال

السلام عليكم

أحيانا أرجح الخوف من الله أكثر من الرجاء في رحمة الله، فأنا محجبة، وعلى قدر الإمكان أحافظ على كل الفروض والسنن والأذكار والورد اليومي، ولكن أشعر أن بعض من الأصدقاء أو الأهل أقل مني تدينا، ولكنهم لا يصابون بالابتلاءات مثلي، وأرجوك لا تقل لي: أنه على قدر الإيمان يكون الابتلاء؛ لأني أشعر أني أفضل أن لا أبتلى حتى لو قل إيماني.

فمثلا أختي غير محجبة، وتصلي الفروض متقطعة، ولا تحافظ على الأذكار والورد اليومي، وأحيانا تشرب الخمر، وتلبس متبرجة، ولكن حياتها ليس فيها ابتلاءات مثلي، ولكن للأمانة هي عندها ثقة في رحمة الله كبيرة، فمن منا على الحق؟ خوفي من الله (مع الحفاظ على كل الفروض والسنن) أم أختي مع ثقتها في الله وفعلها القليل من الطاعات؟

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ noha حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

فالمؤمن يعيش بين الخوف والرجاء، فهو يخاف من عقوبة الله، ولكنه مع ذلك يرجو رحمته وعفوه، وهذه عقيدة الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة، فمن غلب الخوف قنط، وقنط الناس من رحمة الله كما هي حياة فرقة ضالة من فرق المسلمين وهم الخوارج، ومن غلب الرجاء وقع وأوقع الناس في المعاصي، واستهان بها ونسي عقوبة الله تعالى، وهي عقيدة فرقة ضالة كذلك وهم المرجئة.

مرجعنا نحن المسلمين كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولذلك فلا تقولي لي: (أرجوك لا تقل لي على قدر الإيمان يكون الابتلاء) فهذا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى وإنما عن وحي من الله تعالى فحين سأل سَعْد بن أبي وقاص رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً؟ قَالَ: (الأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ).

لعلك تدركين أن المصائب من مصلحة الإنسان، نعم فيها بلاء دنيوي لكنها محتملة، وستقي العبد من البلاء الأخروي الذي لا يتحمله أحد.

الكافر والمنافق يقل عليهم البلاء، ليس حبا فيهم، ولكنه إمهال واستدراج من الله لهم، فإن تابوا ورجعوا فذلك، وإلا فإن الله يوشك أن يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، كما قال تعالى (فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ ۖ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ) وقال: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ) وفي الحديث: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته).

ثقة أختك برحمة الله شيء حسن، لكن لو كان عندها خوف من الله لما شربت الخمر وهل عندها ثقة أن تموت على التوبة، أم يمكن أن تموت وهي مدمنة للخمر وقائمة على المعاصي، وحينئذ لن ينفعها رجاؤها، فقد ورد أن من شرب الخمر لا تقبل له صلاة أربعين يوما، فروى ابن ماجه وصححه العلامة الألباني عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ وَسَكِرَ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا وَإِنْ مَاتَ دَخَلَ النَّارَ، فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَادَ فَشَرِبَ فَسَكِرَ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، فَإِنْ مَاتَ دَخَلَ النَّارَ، فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَادَ فَشَرِبَ فَسَكِرَ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، فَإِنْ مَاتَ دَخَلَ النَّارَ، فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَادَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ رَدَغَةِ الْخَبَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا رَدَغَةُ الْخَبَالِ؟ قَالَ: عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ)). وليس معنى عدم قبول الصلاة أنها غير صحيحة، أو أنه يترك الصلاة، بل المعنى أنه لا يثاب عليها فتكون فائدته من الصلاة أنه يبرئ ذمته، ولا يعاقب على تركها.

وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: قدم رجل من اليمن، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة، يقال له: المزر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أو مسكر هو؟"، قال: نعم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كل مسكر حرام، إن على الله - عز وجل - عهدا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال"، فقالوا: يا رسول الله، وما طينة الخبال؟ قال: "عرق أهل النار، أو عصارة أهل النار".

لا شك أنك على الصواب، وعليك أن تبصري أختك بخطورة معتقدها؛ لأنه يجرها إلى الاستهانة بالمعاصي، وعليك أن تكوني متوازنة بين الخوف والرجاء؛ لأنهما كما يقال بالنسبة للمؤمن كالجناحين للطائر فلا يستطيع أن يطير إلا بهما، وأن يكونا معتدلين، وإن كان يحصل عند المؤمن أحيانا نوع من التغليب لهذا أو ذاك.

أوصيك أن توثقي صلتك بالله، وأن تجتهدي في تقوية إيمانك، وإيمان أختك من خلال كثرة العمل الصالح، فقوة الإيمان يولد في النفس حاجزا يمنع من الوقوع في المعصية.

عليك أن تكوني مدركة أن ما يصيب الإنسان من البلاء إنما هو بما كسبت يداه من الذنوب كما قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ).

على المؤمن إن حل به بلاء أن يحدث توبة ليرتفع ذلك البلاء، ففي الأثر: "ما نزل من بلاء إلا بذنب، ولا ارتفع إلا بتوبة".

على المؤمن أن يرضى بقضاء الله وقدره، وألا يتسخط، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فعليه السخط.

نسعد بتواصلك، ونسأل الله لك التوفيق.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً